مدينة الله السريه
القسم الثاني
الفصـــــــل الثـــــامـن
مــريـــــم فــي خـِتانــة يســـــــوع
منذ اللحظة الأولى للتجسد ، والعذراء الكلية القداسة تـُعاني من إستشهاد مستمر في تاملها الآلام ، التي سيتحملها أبنها الإلهي من أجل خلاص العالم ولكنها لم تكن تعلم مشيئة الله بشأن ختانة يسوع ، التي كان يجب أن تتم بعد الولادة بقليل . كانت تعلم جيداً أنَ ابنها الإلهي قد جاء ليُشرف ويقدس شريعتهُ ، بخضوعه لها نفسه . ومع ذلك بما أن الختان كان مفُترضا سببه الخطيئة الأصلية ، التي لم يكن ممكناً وجودها في الطفل الإلهي ، كانت العذراء تتردد ، بقدر ماكان حبّها الوالدي يخشاهُ ، من أجل الألم الذي يسببّهُ هذا الأحتفال.
آه إن كان أبني الإلهي المحبوب يريد أن يتجنب هذا الألم ، كانت تقول لمذا لا استطيع أن أتحملَهُ مكانه لكوني دويدة حقيرة مرذولة ! ولكن كان يجب عليها أن تأخذ قراراً . وكان تواضعها ورصانتها يمنعانها من الإسراع إلى طلب الوسائل الفائقة الطبيعة ، بدون ضرورة كمثل الإيحاءات . وكانت تكتفي عادة بأنوار الروح القدس ، الذي كان يقود كلّ حياتها .
ولكن بهذه المناسبة ، كانت تجد صعوبة خاصة . وكانت الحكمة تشير عليها العودة إلى الله .
يا ابا سيدي ،قالت لهُ : هاهي خادمتك مع المحرَقة الحقة بين يديها ، فأكشف لي عمـّا، يجب عليّ فعله حتى أتصرف بحسب الشريعة . إن كان بإمكاني أن أُجَنِــبَ ولدي هذا الأمر ، وأتألم عوضا عنه ، فأنا مُستعدة لذلك ، وإن كانت هذه مشيئتك الصالحة فليُختتَن ، فأنا أيضا أرضخ للأمر . أجابها العَليّ : يتوجب أن يُقدم أبني لسكين الخِتان الذي سخترق قلبكِ بالوقت نفسه .
فدعيه إذاً يسفك دمه كباكورة لخلاص البشر الأبدي . ـــــ ياإلهي ! أردفت الأمُ الإلهية ، فلتكُن مباركاً من أجل حبِكَ اللامتناهي للبشر ، الذين من أجلهم تـُضحي بأبنك من الآن . فأقدِم لك إذاً حَملي الوديع للغاية الذي سيمحي خطايا العالم . وإن كان ممكناً التخفيف من شدّة ألمه ، بأن تتحول إليّ السكين التي يجب أن تجرحهُ ، فأعمل هذه المبادلة .
وبسبب تواضعها الدائم ، لم تشرك القديس يوسف معها في هذا الإيحاء ، لكَنها هَيأتهُ ، على سبيل التعزية ، لتأدية هذا الأجراء الشرعي ، لأنهما كما قالت لم يأخذا اوامر معاكسة لذلك من السيد الرب . نعم ! أجابها يوسف : علينا أن نخضع للشريعة العامة ، هذه هي مشيئة المُخلِص ، فعلينا أن لانتهرَب منها . فقالت عندئذٍ للعذراء الكلية القداسة لخطيبها الوقور أن يشتري قنينة زجاج بالدراهم المُرسلة من القديسة أليصابات ، لكي يضع فيها ذخائر الختان وأن يستحضر قماشاً لجمع الدم الثمين ، ودواء عادياً لثمل الجرح .
وبعد هذه التحضيرات ، إتفق الزوجان القديسان أن يعطيا اسم يسوع للطفل الإلهي كما أوحى لكل منهما . وخلال هذا الحديث ، هبط من المملكة السماوية عدد غفير من الملائكة باشكال بشرية ، وأصطفوا في المغارة . وكانت ملابسهم ناصعة البياض وذات غنى عجيب . في ايديهم اغصان من شجر البلح ، وعلى رؤوسهم أكاليل أكثر إشراقا من العديد من الشموس .
ومع ذلك لم يكُن لمعانها يفوق الإشراق المُتدفق مناسم يسوع ، الذي كانوا يحملونه محفوراً على بلوَّر شفاف فوق صدورهم . فقال رئيساً هذه الجوقة الملائكية القديسان ميخائيل وجبرائيل لملكتهم : هاك الأسم الذي اعطاهُ منذ الأزل الثالوث الأقدس لأبنكِ ، لأنه يجب أن يُخلِص العالم .
وكان في بيت لحم معبد لليهود ، حيث يجتمع الشعب للصلاة ولتقبل العلم برئاسة كاهن . وكانت الأمهات تحملنَ أطفالهمَ من أجل خِتانهم . فأرادت مريم ايضاُ أن تحمل إليه الطفل الإلهي ، والقديس يوسف أرسل في طلبهِ . فاستاء لأول وهلة من مظهر المغارة الفقير للغاية ، غير أن نفوره تحول للحال إعجاباً . عندما كلمته العذراء الكلية القداسة ، وعندما نظر إليها وإلى الطفل الذي كانت تحملهُ بين ذراعيها . شعر بورع فائق الطبيعة ، وقال لها حتى يُخفف من شدة شعورها ،أن تنسحب قليلاً من هناك ، بعد أن تسلم أبنها للمساعدين اللذين كانا يرافقانه .
ولكن سمح لها بعدئذٍ ان تحتفظ بالطفل بين ذراعيها . بمَا أنها صارت المذبح الحقيقي الحيّ ، الذي قـُدِمت عليه هذه الذبيحة الجديدة على نور شمعتين مُضائتين من القديس يوسف .
فرفعت الأمُ الإلهية قماط إبنها ، وحملتهُ بقطعة من القماش كانت دفَأتها على صدرها ، ورتبتها بشكل يمكنّها أن تتلقى البقايا والدماء الناتجين عن الخِتان .
وقام الكاهن بمهمتهُ ، وبكى الطفل الإلهي كإنسان حقيقي ، وبالأخص كمخلص النفوس ، تلك النفوس التي كانت اشد قساوة من الحجر المسنون. الذي جرحهُ ، وكانت تؤلم قلبه المُحبّ للغاية فاتكأ على صدر أمًهُ التي كانت تذرف الدموع وتشدُه إلى صدرها ، وتلفـُهُ جيداً باقماطهِ،
بعد ان ضمدت جرحهُ . وتصرفت بهذه المناسبة بشهامة كبرى أثارت إعجاب الملائكة ورضى الخالق .
وعندما سأل الكاهن عن الأسم الذي سيعطونه للطفل ، طلبت من القديس يوسف أن يقولهُ . وكأنه قال لها ، بأن هذا الأسم الرائع يجب أن يخرج من فمها . وبعناية إلهية لفظا معاً اسم
{يسوع} . وبينما الكاهن يكتب هذا الأسم المُقدس كان مُتاثراَ جداً ، ذارفاً دموعاً غزيرة . أني متأكد ، قال الكاهن ، بأن هذا الطفل سوف يُصبح نبياً عظيماً للربّ . فحافظا عليه بعناية فائقة ،
وقولا لي باي شيء يمكنني أن اكون مفيداً لكما . فشكره الزوجا ن القديسان وقدما له الشموع التي أستـُعملت عند تتميم الطقس ، مع اشياء صغيرة . بعد إنصرافهِ ، راح الزوجان القديسان يتحدثان عن السرِ الجديد ، ويذرفان الدموع العذبة ويؤلفان أناشيد سامية على شرف اسم يسوع . فالأم الجزيلة الحنان ، اخذت الطفل بين ذراعيها ليلاً نهاراً طالما كان مُتألماً . وحتى تخفِف من شعوره بالألم، رجت الملائكة الحاضرين ان يعزفوا له انغاماً موسيقية خلابة ، ولكن ادنى بكثير من عذوبة فضائلها ، وكانوا يترنمون بالتسابيح التي كان يمليها عليهم إعجابهم وحبّهم.
وضعت الأم السماوية قِطَـَع الخِتان والقماش المبلّل بالدم في الزجاجة التي كانت فوهتها مزينة بالفضة ، وبأمر منها أحكم سدُ الفوهة تماماً . كما القديس يوسف يحمل عادة هذه الزجاجة المُقدسة ، ولكنَ العذراء الكلية القداسة كانت تأخذها عندما كانت تترك يسوع . وبعد أن حافظت على هذه الذخائر طيلة حياتها سلـّمتها بعدئذٍ إلى الرسل ، ككنز ثمين للكنيسة المُقدسـة .
إرشادات العذراء الكليـة القداسـة
يا أبنتي ، مهما يكُن الحبُ الذي يُظهرهُ السيّد للنفس ، تظل هذه النفس دوماً مُجبرة بالمحافظة على الإحترام غير المحدود ، الذي يتوجب عليها نحو العزّة اللامتناهية للكائن الإلهي . فالحبُ البشري يقيم علاقات من الودِ والمساواة بين الأشخاص الذين يرتبطون بهذا الحب لأنهم من طبيعة واحدة . ولكنَ الحُبَ الإلهي لايستطيع أن يملأ الفراغ الواسع الموجود بين الخليقة والخالق . ولذا فبقدر ماتعرف الخليقة الخالق وتحبهُ، بقدر ماتتعبد له وتكّرمه . ولذا تتجنب خفّة الذين يريدون عند كل سانحة سبر وتفحص اسرار العناية الإلهية . إنه يوجد في هذا التصرف حشرية باطلة وخطأ ذميم ، يبعثه الشيطان دوماً أو يشجع عليه ، حى عندما يتحوَل إلى ملاك من نور .
فلنتحفظ نتيجة ذلك ، أن نسال في إمتحاناتنا الإيحاءات الإلهية ، طلباً للتعزية في هذه الاحوال.
يجب على الخادم الأمين ليسوع المسيح ، أن يحمل صليبه معه بدلاً من أن يهرب منه ، ولوكان بإمكان الطوباويين ان يتعذبوا في السماء لكانوا ندموا بمرارة لجُبنِهم بالأقتداء به ، وفي الجحيم يقاسي الهالكون دون إنقطاع عذاباً لايُطاق ، لأنهم لم يستفيدوا من الأعمال التي قام بها لأجل خلاصهم.