مدينة الله السرية
الفصل الثاني
انتظار مريم في السماء
عندما راى الرب انه قد ان الاوان لتنفيذ تصميمه حول تفاعلاته الخارجية، خلق اولا كما قال موسى السماء مسكن المختارين الابدي والارض مسكن البشر العابر. وفي داخل الارض خلق الجحيم مع نارها المادية لعقاب الهالكين. كانت الارض خاوية ولكن السماء لم تكن كذلك لان الملائكة خلقوا على الفور معها. وقد تكللوا بالنعمة منذ اول لحظة من وجودهم ولكن ليس بالمشاهدة الالهية التي لم يكن باستطاعتهم ان يتمتعوا بها الا بعد ان يستحقوها بامانتهم بالتجربة.
خضعوا حالا لهذه التجربة ذات الدرجات الثلاث. اولا وفي نفس الوقت الذي عرفوا فيه ذات الله وكمالاته غير المتناهية وحقوقه الربانية على خلائقه، ونعيم السماء، وعذابات جهنم تلقوا امر عبادته. فاطاعوا بسرعة ومحبة باستثناء لوسيفورس المتعجرف بسبب امتيازه فانه لم يتمم هذا الواجب الا باسف مدفوعًا بفعل العقل اكثر من بفعل المحبة. وعدم تنزهه هذا هياه للثورة.
فاندلعت هذه الثورة عندما اعلن الله بعدئذ للملائكة الاتحاد المحمول للكلمة بالطبيعة الانسانية، وواجب عبادتهم للاله الانسان. فاستشاط لوسيفورس غيظا وهو المتكبر والحسود لانه كان يريد لنفسه هذا الاتحاد الرفيع فرفض مجدفا تادية واجب العبادة لاله متانس او لانسان متاله متذرعًا بحجة ان الطبيعة الملائكية هي ارفع واسمى من الطبيعة الانسانية.
وقد جر وراءه زمرة من الملائكة خدعهم بسراب الاستقلال بينما الاخرون، وهم الاكثرية، هللوا بحماس لابن الله الصائر انساناً.
وفي درجة ثالثة امر الله الملائكة ان يعترفوا بالمراة التي سيتم بواسطتها تجسد الكلمة، ملكة عليهم، وهي بفعل هذا الامتياز وجب ان تترتفع بصفاتها وامجادها فوق جميع المخلوقات. فاراهم اياها بطريقة خيالية كما وصفها الرسول القديس يوحنا في الفصل الثاني العشر من سفر الرؤيا: متشحة بالشمس، اي بالله ، شمس العدالة الحقيقية، وتحت رجليها الظافرتين، القمر ، اي ظلال الخطيئة يرمز اليها بكوكب الليل . وكانت مكللة باثنتي عشرة نجمة تمثل فضائلها. والمختارين الذين ستكون مثالا وسندًا لهم. وتلد اخيرا للعالم طفلاً الهيًا ذبيحة فدائه المستقبلية تجعلها ترسل صراخات اليمة.
سببت هذه الرؤيا السرية صراعا كبيرا بين الملائكة. فقام لوسيفورس واتباعه ضد هذه المراة التي انعم عليها الى هذه الدرجة، وضد رفعتها. فطلب سجودنا لها هو غير عادل، قال رئيس الثوار، وهذا مهين لعظمتي. وبينما هو في اعلى درجات الادعاء والغضب الفاقد الصواب قال لله بمنتهى الوقاحة : ساقلب مقاصدك وساحرم هذه المراة من الشرف الذي تعده لها. حسناً ! اجاب الله ان هذه المراة التي لا تريد ان تكرمها سوف تنتصر عليك وتسحق راسك.
ولكن الملاك ميخائيل ، رئيس الملائكة الاخيار، ابدى اشارة الخضوع المتواضع والودود لاوامر الخالق. (من مثل الله؟) وصاح قائلا : من بامكانه التشبه به، هو غير المتناهي في عمله وقدرته وصلاحه؟ اليس هو سيد عطاياه؟ فمن من حقه ان يعترض على توزيعها؟ فلنعبد اذا، لانه اراد، الانسان المتجسد بالكلمة، ولنكرم المراة الطوباوية التي يجب ان يتم فيها هذا السر. فالنعترف بها سيدة لنا من كل قلوبنا. وانضم الى الملاك ميخائيل ثلثا الملائكة يحاربون ضد الثلث الاخر باسلحة العقل والاحترام ومحبة الله. اما الملائكة الاشرار فعوض ان يعودوا الى صوابهم الحقيقي ويرجعوا لله حقوقه بتوبة نافعة للخلاص تصلبوا بالتجاديف وثورة كبريائهم الجموح يحرضهم دوما رئيسهم الغادر. وعبثا شدد القديس ميخائيل على ضرورة الطاعة. صاح كل منهم : كلا لن اخضع ابدا. وكانت هذه اخر كلمة تلفضوا بها بحريتهم الفاسدة وغير القابلة الإصلاح.
ونالهم العقاب حالا وكان ذلك في بدء اليوم الثاني للخليقة. فانقلب لوسيفورس الذي تعجرف تعجرفا اثيما بجماله، الى تنين قبيح المنظر بسبعة رؤوس، صورًا لاتباعه، وعليها سبعة تيجان تمثل الخطايا الرئيسة وعشرة القرون صورةً لقوى الاضطراب. رمى به الملاك ميخائيل، اداة العدل والقوة الالهية، الى الجحيم مع اسمائه الجديدة التنين والثعبان والشيطان وابليس التي كان قد لقبه بها رئيس الملائكة اثناء تلك الحرب الماثورة وقد تبعته جحافل الابالسة الاخرين وخصصت اماكنهم في السماء للمؤمنين الصالحين.
وفي ذات الوقت الذي كان فيه هولاء، الهالكون الأوَل يسقطون في اجيج النار المنتقمة ، اظهر الله ذاته بوضوح للملائكة الظافرين وادخلهم في سعادة ومجد الرؤيا الطوباوية وبانتصارهم الابدي. ودوى صوت جهير في البلاط السماوي يقول: الآن توطد مُلك الله ومسيحه. وراحت اصداء هذه الهتافات، تذعر المنفيين الى الجحيم. وبعدئذٍ كشف الله بانوار ساطعة، للملائكة المفتونين عجبًا، عن اسرار التجسد والفداء وعن مصير العذراء القديسة الفريد وعن رسالتهم تجاه البشر وبخاصة تجاه الكلمة المتجسد وامه الجليلة وهذا ما جعله يشعر بارتياح يفوق كل ما سببته له ثورة ابليس من استياء.
وكانت ضد هذين الشخصين بالذات، قد قامت نقمة الشياطين في الجحيم، لانهما كانا سبب سقوطهم الشنيع. وتحت ضغط هذه الثورة تجرأ ابليس ان يطلب من الله ان يسمح له بتجربتهما بكل ما اوتي من قوة كما يفعل مع البشر.
ـ " الكلمة المتجسد هو خالقك، اجاب الله، فما عساك تستطيع ضده؟ وامه ستكون منزهة عن كل خطيئة ".
ـ" ولكن اي استحقاق ستنال بمحافظتها على قداستها، اردف ابليس، اذا لم تمتحن بالتجربة؟".
ـ " فليكن ، قال الله ، الذي اراد ان يعطي بذلك امثلة كمال للنفوس الممتحنة، فها انا اسمح لك بما تطلب ".
وفيما كان ابليس ينتظر ان يمارس، ضد هذه الامراة المجيدة الاضطهادات التي يتكلم عنها سفر الرؤيا في الفصل الثاني عشر، تابع اعوانه ثورتهم ومؤامرتهم ضدها ولكن ملائكة السماء لم يكفوا عن اهداء التماجيد الفرحة بالإكرام والمحبة لمجيئها المنتظر بحرارة.