مدينة الله السريه
القسم الاول
الفصــــل الحـادي عشـر
خطوبة مريــــم
بلغت أميرتنا الجميلة جداً سنتها الثالثة عشر والنصف وكانت متقدمة بنموِّ الجسم والعقل ، بالفضائل والإستحقاقات عندما أمرها الربّ بواسطة رؤيا تجريدية أمراً ملأها ذهولاً مؤلماً:
(( عليك ياأبنتي بدون أي تفسير ، أن تتـَّخذي لك عريساً)).
ولكن كيف يمكن لهذا الأمر أن يتوافق من نذر العفة الذي نذرتهُ بسعادة كبرى ، وكانت تحب ان تجددَّه غالباً ؟ إن قلبها ال المُتـَعلق فقط بالله الذي إتخذها بإحتفال إلى السماء كعروس عذراء له ، كان يُشمئز من الخلائق . وها اللهُ يأمرها أن تتخـذ منـها عروساً . ألم تكُن تضحية كُبرى تـَفوق تضحية إبراهيم الذي أُجبر أن يقرِب ابنه ذبيحة ؟ لأنها كانت أشد تعلقاً بطهارتها من تـَعَلق الكاهن الأعظم بأبنه إسحق.
ولكن مريم الحكيمة علّقت حكمتها على هذا الأمر المُدهش وتذرَّعت بالرجاء ضد الرجاء قائلة مثل القديس بولس: ((ياخالق السماء والارض السيد المُطلق لجميع الاشياء ، بأستطاعتكِ أن تفعل بهذه الديودة الصغيرة كل مايحلو لكَ بدون أن أحنث أبداً بكل ماوعدتـُكَ بهِ. وان لااحيد بشيء عن رغبتك الصالحة ، أُؤكد لكَ من جديد وعدي بأن أظلَ عذراء طيلة حياتي ولا أتخذ عروسا لي سواكَ. وبما أنهُ يتوجَب عليّ أن اطيعكَ كمخلوقةَ ، يتوجَّب عليكَ كعروس لي أن ترفع ضعفي من الغمِ الذي وضعني فيه حُبّكَ الإلهي)).
وبالرغم من إظطرابها وزنها تمَّـمت العذراء الكلية القداسة فعل الطاعة وهو اكبر عمل بطولي بحياتها حتى هذه الساعة.
((يامريم ، أجابها السيد ، فليبق قلبكِ بسلام ، إن قرارك يلـذُ ُ لي وآخذ على نفسي أن أُدبر لك مايوافقك بالأكثر )).
وعندما عادت غلى حالتها العادية ، كانت العذراء القديسة تفكر دوما بأمر الله وبالوعد الذي يريد مضاعفته لها منذ الآن ، وتفيض حتى بدموع الحُب والثقة وأفعال الأتضاع والطهارة وسائر الفضائل. وينما كانت نفسها تحت وطأة الخضوع اهذه الأضطرابات الصعبة ، أمر الله بالحِلـم ، الكا هن الأعظم القديس سمعان بأن يعطيها عريساً بالرغم من إرادته الخاصة. وبما ان الشيخ الوقور صَلَّـي لله أن يُعِين هو بذاته عريساً لأبنة مُميزة كهذهِ ، أوعز إليه العَلي معالجة هذا الموضوع مع بقية الكهنة . وعندما إجتمعوا لهذا الأمر قرروا بأن يإخذوا لها عريساً من ذرية داود حسب أوامر الشريعة وطلبوا من الله إشارة تـُد لـُهم إلى مختارهُ.
فعَّـينوا يوما ، يُدعى فيه جميع الشـُبان المُتحدرين من سلالة داود ، بالمجيء إلى الهيكل حتى يُقدِمون على هذا الأختبار . وكان ذاك اليوم هو اليوم ، الذي تـُكمّل فيه أميرتنا سنتها الرابعة عشر بالذات.
وبِما أن كان من الضروري الحصول على رضاها ، ذهب الكاهن ليسألها رأيها فأجابت والحشمة العذرية تغطِي وجهها: إني قررت أن أعيش بالطهارة ، مكرِسة نفسي لخدمة الله في الهيكل ولكن بما أن تـُمَثِلهُ يعود إليم أن تقول لي ماسيكون مطابقاً لمشيئتهِ )).
((ياأبنتي أجاب سمعان ، أن الله يأخذ بعين الاعتبار مقاصدك المُـقدسة ولكن الآن ونحن بأنتظار المسيح لاتوجد فتاة باسرائيل وترفض الزواج. وبإستطاعتك مع ذلك أن تـُتابعي خدمة الرب بكثير من الكمال وسنلتمس إشارة تـَدلـُنا على العريس الذي يحدّدهُ لكِ )).
كان هذا الكلام قبل تسعة ايام من تتميم القرار المُتـَخذ . وفي هذه الفترة لم تنقطع العذراء القديسة عن الطلب غلى الله بالدموع أن يتمِم مشيئتهُ الصالحة.
فظهر لها أخيراً وقال: ((إطمئني ياابنتي ، سأختار لكِ عريساً ، عوض أن يُعارض نذرك للعفة،
سيكون مُـثبتاً لهُ . ومع ذلك فحمايتي لن تفارقكِ البتة )).
فأجابت مريم : ((ياحُبي السامي ، إنكَ لَعالم بالرغبات التي ملأتَ بها قلبي منذ اللحظة الأولى من كياني . إحفظني بالطهارة الكاملة التي نذرتها لكَ. فليَبعد عني الزواج إن كان يُسبب لي بعض الخطأ ولتقويني نِعمَتكَ قبل كل شيء لتتميم رغبتك الصالحةِ، وإن لم اكن سوى دودة أرض حقيرة وغبار لا فائدة مِنهُ .
وتحدثت عدة مرات عن موضوع اظطرابها مع ملائكتها الحراس الذين قالوا لها يوماً:
((إطمئني ياعروس العَلي، الله يَتـكفل بكل شيء يَخـُصكِ. ومراسيمه دوماً عجيبة ولايمكن للخليقة فهمها، ولكن عليها ان تحترمها. إن أرادت عِزتـَهُ أن تخدميه بالزواج سيكون الأفضل لكِ أن ترضيهِ وأنتِ بهذهِ الحالة ولا تخدميه يغيرها. إتكلي عليهِ سيعِدُك دون شكّ إلى ماسيكون الأكمل والأحسن لكِ )). فكلفت العذراء الكلية القداسة الأمانة ملائكتها بأن يقدِموا لله ذبيحة إستسلامها البنوي للعناية الإلهية.
ومع ذلكَ فقد حان اليوم المُحدد لأنتقاء عريسها. وكان في أورشليم شـُبان مِن ذرية داود التي تتحدر منها مريم . إجتمعوا في الهيكل وكان من بينهم يوسف الذي من الناصره وكان قد تركها
بعد ان ادبر الزمان به هناك ، وكان من أقرباء( إبن خالٍ لها) العذراء الكلية القداسة(1) ومثلها
قد نذر العفة يوم كان له من العمر إثنتا عشرة سنة فقط. وكان عمره وقتـئذٍ ثلاثين سنة ذا وجه
لطيف ولكن مع إتضاع لامثيل له ومسلك لاعيب فيه تجاه الله والناس، ولذا كان مدعواً خاصا لهذا الإجتماع.
فرفع جميع الشـُبان المُجتمعين مع الكهنة الصلوات لله ، حتى يُظهر لهم إرادته. فأوحي عند ئذٍ إلى الكاهن الأعظم أن يأخذ كلِ منهم قضيباً يابساً وطلب منه أن يَكشف خياره بهذه الطريقة ، وبما انهم كانوا يعرفون جميعاَ جمال وغنى وفضيلة مريم كان يرغب جميعهم بحرارة إتخاذها عروساً. ماعدا يوسف الذي كان يكنُ لها إحتراماً أكبر من الباقين ، كان يظن نفسه غير أهل لهذه السعادة وقد جددَّ نذر العفة واستسلمَ لإرادة الله.
وبينما كان الجميع يُصلـُون ، بدأ قضيب يوسف فقط يـُزهِر وشـُوهدت حمامة ناصعة البياض تنحدر على رأسهُ وفي الوقت قال له الرب: ((يايوسف خادمي إن مريم ستكون عروساً لكِ. تقبّلها بعناية وإحترام بسبب كمال طهاراتها وأعمل بِكل ماستقولهُ لكَ )). وراى الكهنة فيه مُختار الله فأرسلوا بطلب مريم فظهرت أمامهم بجمال وتواضع وجلال يفوق جلال الملائكة،
فزفوها إلى يوسف أطهر واقدس الرجال.
وذهبت بعدئذٍ فاستأذنت الكهنة ومُعلمتها بالخروج طالبة منه البركة ثم ودَّعت رفيقاتها
مُستغفرة إياهُنَّ وشاكرة الجميع على الخير الذي حصلت عليهِ.
وبكل هذا اظهرت كثيراً من الإتضاع وتلفظت بكلمات قليلة لأنها كانت تتكلم قليلاً جداً ،
ولكن كل مانطقت به كان له قيمة كبيرة . وتركت الهيكل بألم كبير وذهبت برفقة القديس يوسف إلى الناصرة حيث كان لها أملاك من عائلتها .
وبعد الإنتهاء من تقبـُل التهاني حسب العادة الجارية. قال يوسف لمريم : (إني أشكر العَلي على الإكرام والحظوة التي أعطاني إياها عندما إختارني لأكون عروسك . وأرغب منكِ أن تساعدني لأعبِر له عن أمتناني لمعروفه بأستقامة قلبِ في خدمته ، كما أريد أيضاً أن أكون خادماً لكَ. لعَلكِ تجدين في تفانيّ عوضاً عن الخيرات والصفات الحسنة التي تنقصني ! إملي عليَّ إرادتك حتى أستطيع تتميمها كما يجب )) .
وكانت العذراء الكلية القداسة محاطة بألوف ملائكتها الحراس بشكل منظور كما كانت قد طلبت منهم. لأن الله قد تركَ فيها خشية وجودها بحضرة رجل. فأجابت بكل إحترام كما يريد منها الربّ: (( نعم يجب علينا أن نشكرالربّ لأنه إختارنا لخدمتهُ . إني أقر بأني مدينة لعزتهُ الإلهية أكثر من جميع الخلائق كافة لأنني نُـلتُ إنعامات أكثر من الجميع. منذ طفولتي وبإلهاماته كَرستُ نفسي له بنذر العفة. فهو عريسي وانا له ، واريد بثبات راسخ ان أبقي له . إن إرادتي ياسيدي هي ان تساعدني حتى أحفظ نذري ؛ وبكل شيء فيما عدا ذلكَ سأظل خادمتكَ الأمينة)).
فصراحتها هذه جعلت القديس يوسف الكلي الطُهر يفيض فرحاً واجابها : (سيدتي عندما كشفتِ لي عن رغباتكِ المُقدسة أفرجتِ عن قلبي لأني لم أكُـن أود أن أظهر لكِ مكنونات نفسي إلا بعد معرفتي بمقاصدكِ. وإني أقرُ بأني مَـدين لله أكثر من جميع البشر لأنه منذ حداثتي دعاني لحبه وحدهُ. وعند بلوغي الثانية عشر من عُمري أبرزت نظيرك، وبدافع منه نذر العفة المؤبدة وها إني أجدده الآن بحضرتهُ الإلهية تثبيتاً لنذركِ أنتِ . فلا تشغلي قبلك إذاً بِغير حُبهُ الإلهي ،وارجوك أن تنظري إلي كأخ لك وأنا ساخدمك بأمانة )).
وفـَتن الله الزوجين المقدسين بتعزية لامثيل لها وكانت خلاصة حديثها الأول هذه الكلمة : لانـُحبنّ إلا الرب. فأفاض الله على القديس يوسف طهارة جديدة وسيطرة كاملة على جميع حواسه حتى يستطيع أن يخدم عروسه بنزاهة كاملة . وأسدل على وجه العذراء فوق ذلك بإشعاع سَامٍ كالذي طفح على وجه موسى عندئذٍ نزوله من جبل سيناء ، بنوع أن هذا اللمعان ،
إضافة وقارها الفائق الوصف ، كان يوحي دوماً لعريسها البتول خوفاً مُحتشمـاً يفوق كل
بيـان(2) . قسَّم الزوجان السماويان بعدئذِ خيرات القديس يواكيم والقديسة حنة ، وقدما جزءًا منها لهيكل أورشليم وجزءًا آخر للفقراء واحتفظا بالجزء الثالث من أجل معيشتهما .
كان القديس يوسف وحده يهتم بإدارة مداخيلهما الوضيعة لأن العذراء مريم القديسة لم تـُرد ان تهتمَّ بالعمل . كانت تتجنب دوما البيع والشراء وكل شيء له علاقة بالخارج.
وبما أن القديس يوسف كان قد تـَعلم مهنة النجارة طلب،من مريم إن كانت تريد ان يُمارسها ليتمكن من مساعدة الفقراء وحتى لايظل بدون عمل . فوافقتـُه الرأي بكل طواعية قائلة إنَّ الرب يريدهم أن يبقوا دائماً فقراء ، واصدقاء ، ومُجبرين للفقراء . وبعدئذٍ حصلت بينهما
منافسة بنـَاءة وحرب مقدسة . كل منهما كان يفهم انه يتوجب عليه أن يكون خاضعاً للآخر
ولكنَّ الغلبة بقيت العذراء الكلية القداسة التي كانت غلابة بكلّ شيء. وبما أن الرجل حسب
سُنـَّة الطبيعة هو الرأس ، لم تقبل العذراء أبداَ أن يُعكس هذا القصد الإلهي . فجعلت القديس يوسف يتقـَبل طاعتها ونالت منه الإذن بتوزيع الحسنات .
ولما كانت وحدها حصلت لها رؤيا قال الله في خلالها: ((ياأبنتي المحبوبة إنظري كيف أُؤزر الذين يحبونني وأكون أمينا لوعودي . أستجيبي لحناني بقداسة كاملة . أن رفقة خادمي يوسف ستساعدك على تتميم هذا الواجب . أطيعيه وأعملي لتعزيته)).
فأجابت العذراء الكلية القداسة : (( أمجدكَ ياإلهي من أجل حكمتكَ العجيبة التي وجَهـتَ حياتي بها. وكل رغبتي هي أن أَرضيك . فتنازل وهب لي بركتك حتى أخدم يوسف حسب مشيئتك ،
وأعمل دوماً ، وأنا بحياتي الجديدة ماهو أحبّ إليكَ )).
وكانت طريقة حياتها بالزواج قد وصفها مسبقاً سليمّان في آخر فصل من سفر الأمثال. وحدها ، هي هذه المرأة القوية التي أًعجبَ بها لأنها لم تخضـع بشيء للضعف البشري والحيل الشيطانية. فكانت حياتها نسيجاً متناغما من الصلوات والعمل والنظام والتخلِي الشخصي والإتحاد الدائم بالله ، بالإحتقار المُطلق لجميع الاشياء الأرضية الزائلـة والخدّاعة .
وهكذا منذ الثامن من ايلول يوم زفافها ، حتى يوم التجسد ، كانت تتهـيأ دون معرفتها ، كما والقديس يوسف، تحت إشراف العلي ، للعمل العظيم الذي إختارهما لأجلهُ.
إرشادات العـذراء الكلية القــداسـة
ياأبنتي العزيزة ، إن احكام الله هي غير مُدركة وصعبة المنال على الخليقة. فعليهما إذاَ أن تتفادى الغوص فيها فتتقبـَلها بتواضع وخضوع العقل والقلب. وإذا وجدت بعض الصعوبات أو
الخطر في تتميم أوامر الله فهي مُجبرة بأن تضع ثقتها فيهِ مُتـأكدة بأنه لايُعّرِضها لشيء ، ويهملها، ولكن ليهبها الغلبة، شرط أن تتجاوب دوماً مع مساعدته . وإذا أرادت أن تتفحص وتفهم قبل أن تـُطيع ، فتسبِب بذلك إهانة عزة خالقها وتخسر بالوقت نفسهُ إستحقاقات أعمالها.
وهذا هو النمط الذي إتبعته عندما أمرني الله بأن ارتبط بالزواج بدون أن يُبَين لي السبب .
وهذا الزواج كان ضرورياً من أجل رِفعتي وشرف أبني الذي كان سره يجب أن يبقى مجهولاً من إبليس والعالم .
وبما أن هذا الهدف كان مخفياً عليَّ ، فإن هذا الامر الذي تقبلته سبّب لي ألماً كبيراً وَجب عليَّ أن أتحملهُ حتى اليوم. ولولم يعضُدني الله ويترك فيَّ بعض الثقة بممارستي نذر العفة لكنتُ قـَد مـُتُّ. ولكني حذرت من أن أتفحص عمل الرب تجاهي ، وخضوعي المُنتصر على ألمي كان أحب وأعظم استحقاق لديه. ولذا فعليك أن تتمثلي لكل ماسيجعلك مرضية لدى سيدك ، وتتبعي إلهاماته برضى كهنته أو رؤسائك.
فلا توجد حالة يمكنها ان لاترضيه . وسلوكي يحكم على الاشخاص الذين يجدون الزواج سبَباً لعدم ممارسة الكمال . كنت اعيش في بيت خطيبي ، وعندي نفس الحرارة التي كانت في قلبي بالهيكل ، لأنني وإن كنت غيرَتُ نَمط عيشي فإنني لم أُغير شيئاً من إستعداداتي نحو الله. بـل بالعكس ضاعفت حُبي وخضوعي حتى أقوم بواجباتي الجديده ، وكان الله يساعدني بالأكثر ويُتمِم رغباتي.
الأشخاص المتزوجون يَشعرون مثلي بمفاعيل حنانهُ إن لم يُضحوا بمشيئته الصالحة تجاه ملذاتهم الخاصة ،لأن لاشيء غير مُستطاع لدى الرب وعند كل مَن يستسلم بكليته إليهِ ، ويضع فيه ثقتـهُ بإيمان لاحـدود لــهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسب بعض الكُتـَاب كان يوسف يتحدر من داود بسليمان ومريم من داود بناتان. يعقوب والد يوسف كان شقيقاً للقديسة حنة والدة مريم العذراء الكلية القداسة.
[b]
(2) إن الطوباوية مريم القربان المقدس(كرملية بون) كانت لها مثل هذه الظاهرة الغريبة فكان وجهها يتالق إشراقا حتى لم تـَعد كأنها خليقة ارضية لايستطيع باقي الراهبات التحديق إليها وكان ينَعـَم قديسون عديدون بهذه الأعجوبة النادرة ولكن برهة قصيرة فقط.
<p>
[/b]