مدينة الله السرية
الفصـــــل العـــــاشــــر
حــــداد مريــــــم فــــي الهيكــــــــــل
لم يَمضِ على مريم ستة أشهر تقريباً حتى أوعز غليها الربّ بقرب واة والدها. وقد تقبـّلت هذا النبا باكمل تسليم للأمر الإلهي. ولكن بمَا أن محبة الأهل هو دين طبيعـي ، وكانت تتحلى به على أكمل وجه شعرت بألم كبير يتناسب وسموَّ نفسها. إيفاءً لكل ماكان يتوجب نحو طبيعتها والنِعمَة التي كانت تتحلى بها صلـَّـت إلى الله بحرارة من اجل انقضاء أجل والدها بسلام وتهيأت
لتتقبله مع كل الاشجان التي كان يريدها لها الرب.
تقبَّلت سيادته اإلهية هذا الطلب. وبعدئذٍ أنباها بوفاة الشيخ الوقر قبل ثمانية أيام وحددَّ لها حتى ساعة الوفاة. فامرت عندئذ ملائكتها الأثنى عشرِ الموضوعين تحت تصرفها ، بمؤازرة والدها ومن أجل تعزيتهُ الكبرى بـَشـَروه بحضور القديسة حنة بأن إبنتهُ هي المختارة حتى تـُصبح أُماً عذراء للكلمة المُتجسد.
وفي هذه اللحظة بالذات إمتلأ شكرا لله وفرحاً ومحبة فتوقف عن الكلام وافاض النَفَسَ الأخير وكان له من العمر تسع وستون سنة ونصف. فحمل الملائكة روحه إلى الينبوس حيث بشـَـر هناك كسفير العزة الإلهية بأن أبتهاجا بأنَّ أُمَّ المُخلص المُنتظر أصبحت حيئنذٍ على الأرض . فتهللَّـت جماعات الأبرار إبتهاجاً ورفعت للعَلي أناشيد جديدة فقصَّ الملائكة الحرَّاس على مريم لدى عودتهم جميع ماجرى. فصلّت إلى الله كي يكون المُعّزي والمُرشد لوالدتها المحبوبة. ولما أخبرتها مُعلمتها بوفاة والدها تـَظاهرت بِجهلهِ تواضعا مِنها وذهبت إلى الهيكل حتى تقدم لله ذبيحة تسابيحها لمشيئتهِ.
ولمابَلغت الثانية عشر من عمرها سمعت يوماَ الملائكة يقولون وحتى بدون أن يظهروها لها:
((يامريم إنَّ أُمكِ القديسة تقترب من ساعة أجلها . وهكذا عزم العَلي أن يحرِرها من سجنها الجسدي ويضع حداً سعيداً لأعمالها ومشاقها)) . فلم يستطيع قلب أحنِ أبنة في العالم إلا أن يشعر بالألم. فسجدت تواً للحضرة اإلهية ورفعت له هذه الصلاة الحارة: ((ياخالق الكون وملك الدهور ، مع أني لست سوى رماداً وغباراً وأخشى إن استطعت يوماً أن أكون غير مرضِيَّة أمام عزتك ، فلن أتاخر بأن أفيض قلبي بجملته على أمل أنك لن تحتقر من هي على الأقل قد اعترفت بأسمك القدُّوس . تنازل وأجعل أمَتـَكَ تـَرقد بسلام ، هذه التي أرادت دوماً أن تـُتَمم مشيئتك بإيمان ورجاء. فلتـُعضدها رأفـتك وقوتك بنهاية شوطها الأخير ، حتى تصل منتصرة إلى ميناء مختاريك)).
فكان جواب الربِ لها نِعمَة عجيبة. ففي الليلة ذاتها أمر ملائكة العذراء القديسة أن يحملوها فعلاً إلى جانب والدتها ، بينما حلَّ محلـَّها واحد منهم في الهيكل بجسم هوائي وله نفس شكلهـا.
منذ أن أصبحت قرب المريضة الجليلة قبلت يدها بإحترام كبير وقالت لها : (ياامي العزيزة والمحترمة ، فليكن السيد الربّ نورك وقوتك وليتمجد إسمهُ لأنه أعطاني التعزية بان أحصل على بركتك الأخيرة )) وحرَّضتها بعـدئذٍ على تقبل الموت بشجاعة وثقة من خلال بعض الأعتبارات المُعزية قائلة له : ((علينا أن نَمرّ كُلنا بباب الموت حتى نصل إلى الحياة الابدية التي نتوق إليها . إن هذا الطريق هو شاق بدون شك ولكنَّهُ مُثمَر لأننا نخضع له حتى نُـتمم رَغبتهُ الصالحة ، مصدر الأمان والراحة، ولأن الخليقة تكفِر بواسطتهُ عن تهاون وأخطاء حياتها.
فتقبلي الموت إذاً بفرح وإني واثقة بأنك ستـُضمين إلى عِدَاد أجدادنا القديسين وتنتظري معهم فداء مخلص العالم، وهذا الرجاء الأكيد سيكون تعزيتك )).
فأ جابت القديسة حنة مريم بطريقة تليق بها صادرة من أحسن والدة لأفضل إبنة: ((شكرا لكِ ياأبنتي العزيزة على المحبة الت يتـَظهرينها لي بهذه المناسبة. فأنا كما تعلمين غـذَّيتك من
ذاتي وحفظتك دوما في قلبي، فاعرضي أمام الله خالقنا حاجتي لمعونتهُ الإلهية في هذه الساعة، واطلبي منه أن يَمدَ يدّ رأفتهُ غير المتناهية إليَّ أنا خليقته الحقيرة ويباركني ساعة الموت لأني الآن كما في كل وقت فيه ثقتي . وانتِ لاتتركيني إلى أن تطبقي عَينيَّ .
ستصبحين يتيمة محرومة من اي عون بشري ولكنك تعيشين تحت كنفِ حماية العَلي المُطمئنة. لاتتركي الهيكل قبل أن تبلغي إلى حالة من الصلاح بفضل نصائح الكهنة الحكيمة ، وبعد ان تطلبي من الله أن يُرتِب حسب مشيئتهُ ويعطيك إن كانت هي إرادته عريساً من سبط يهوذا ومن نسل داود . أعطي المساكين حصة كبيرة من خيرات والدك وخيراتي التي تعود لَكِ. إحفظي سِركِ بعمق ، وصلي إلى العَلي بدون إنقطاع حتى يرسل إلى العالم المسيح المُنتظر.
وأخيراً أرجو من صلاحه غير المتناهي ، ان يكون عندك ويرافق ببركتهِ هذه البركة التي أعطيك إياها)) . وخلال أحاديث كلها سماوية ، شعرت القديسة حنة بسمو إقتراب الموت.
فاستندت إلى عرش النِعمًة ، اي على ذراعي إبنتها الكلية القداسة ، وسَلمت للخالق روحها المُتألقة نقاوة . فحُمِلت إلى الينبوس وهناك تعَرَف عليها رؤساء الكهنة والأنبياء وجميع الأخيار الموجودين هناك . ولم يكُن لها من العُمر سوى ست وخمسون سنة فقط ولكن إستحقاقاتها كانت أكبر واسمى بكثير من سِنيها . وحسب رغبتها أطبقت مريم جفنيها، وبعدما
جُهِزَ جسدها كما يجب أعاد الملائكة مَلِكتـُهم إلى الهيكل , فلم يَعفِها العَلي من ألم هذا الفراق الطبيعي ، ولكن جعلهُ يرفعها ويُقدسِها بالنِعمَة ، وتشكر الله على كل الإحسانات التي حصلت عليها من أجل والدتها الحبيبة. بالرغم من أنها لم تـَنعَم بعذوبات الرعاية التي كانت تَحوِطها بها بسبب أمومتها الإلهية العتيدة.
وشاء الله بعدئذٍ أن يَنعَم على دموع حدادها بأفضل التَعزيات. حتى الآن كان يُتابع اختفاءهُ عن عينها ويحجب ملائكتها الحُراس.ولكنَه أضاء عندئذٍ ببعض شفاعاتهِ ليَلها الحالك. وتحت وطأة هذا النور واللهب الخفي الذي كان يُضرم قلبها قالت مريم لملائكتها : (ياأحبائي واسيادي ، حراَّسي اليقظين والأَمناء للغاية، متى يَلمع فجر ذلك النهار الجميل حيث سترى عيناي شمس العدل الذي هو نوري وحياتي ؟))((ياعروس العَلي ، أجاب الملائكة ، إن ما يرغبهُ قلبكِ هو قريب وقد ظهر)). وفي هذه اللحظة بالذات وكشاهد كما كان كلامهم، إنقشع الضباب الذي كان يحجبهم عن ناظريها وشاهدتهم كما كان يحصل قبلاً. ((أيها الأمراء السماويون ، قالت لهم عندئذٍ ، لماذا كنت مستحقة أن أحرم من مشاهدتكم ؟ قواوا لي باي شيء كنت مستهترة حتى لن أعود أفقدكم بغلطتي)). ((آه ياسيدتنا ، أجابها الملائكة ، لم نكن نتصرف إلا حسب مشيئة الله. عندما كان يَحرمك من مُشاهدتهُ بأمرنا أن لانعود نظهر نحن أيضا البتة، ولكن بدون أن ننقطع عن حراستكِ بإعتناء )).
إن القلب الذي خرقه الله بسهام حُبَهُ لن يعرف الراحة إلا فيه ، وهكذا فالعذراء الكلية القداسة رغم فرحها بمشاهدة ملائكتها ، كانت ماتزال تتحرق لرؤيته الإلهية. ((أين هو معلّمي إلهي ؟ أردفـَت مريم ، متى سيُتاح لي أن أتأملهُ ؟ قولوا لي إن كنتُ لسوء حظي أغظتهُ بشيء ما، حتى أبكي، أنا الخليقة الحقيرة ، بمرارة سبب هذا الغَم)). فأجابها الملائكة: (( إن الله لن يمنع ذاتهُ عن الذين يطلبونه حقاً بحرارة، وبالأخص بحرارة الشوق كحرارتكَ ولذا فإنكِ ستشاهدينهُ)).
وحتى يُهيئها الشرافيم، الذين كانوا بحراستها لهذه الموهبة ، أضرموا بالأكثر لهيب حبها. وفي حميَّة هذا الحُب المضطرم دوماً قالت لهم مريم: ((أيتها الأرواح السامية، أقرب الناس لإلهي،إجعلوني أعرف نا الذي يَمنعهُ من ان يُفرحني بوجوده فإن كانت غلطتي فسأصلح ذاتي ، وإن كانت راحته بهذا الألم فأكون سعيدة بتحملهُ ، ولكن كيف أستطيع العيش بدون حياتي ؟))
فأجابها الملائكة: ((إن الله يُنزل الحزن بِمَن يُحبِهُم حتى يُعزيهم بعذوبة أكبر . أنهُ يتنحى حتى يعطي فرح لقائهِ. فهكذا تتجدد النفس بتقدير ومحبة كنزها. فمن أجل فائدتكَ إذاً، حجب السيد عنكِ حضوره ، ولكنه لن يتأخر عن الظهور)).
وحقا ظهرت العَزةَ الإلهية بهذه اللحظة إلى محبوبتها مريم برؤيا تجريدية واضحه ورفيعة. فَخرّت على أقدامهِ وقالت له: (أيها السيد غير المُدرك بما أنكَ ترفع من التراب هذه الدويدة الحقيرة تنازل وأقبل شكري مع الشكر الذي تؤديهِ لك حاشيتكَ من أجل الخيرات التي غمرتني بها ، وإن لم أكن قد تقبَّلتُ إمتحاناتي الصغيرة وموت والديَّ كما يجب، وإن كنتُ حدت شيئاً عن رغبتك وإن كانت أعمالي لم تـُرَق لك بسبب دناءتها فأرجو منكَ أن تـُطهَّرني وتـُجدِدَني وتجعلني مُتضعة مُحترمة حتى أصبح من الآن وصاعداً مَرضيةً لديكَ ولا تـَعود ترذلني أبداً )).
فأجابها العَلي : (ياابنتي المحبوبة ، إن ألم موت والديك والشعور ببقية الأحزان ليست بخطايا ولكنَّها اشياء طبيعية للجبلة البشرية. فالمحبة التي خضعت بها لإرادتي استحقت لك نِعَماً
جديدة .فإن حكمتي تصنع بتتابع ، الليل والنهار ، الهدوء والعاصفه حتى لم تَعُد النفس تتحرك إلا تحت ثقل علمه فتتقدم بأمان اكبر بطريق القداسة وتستحق إستحقاقات أكثر فتصبح مرضية
لديَّ .ولهذه الاسباب تاخرت طويلاً بظهوري لك ، فأخدميني إذاً الآن بخالص الكمال )).
فخرجت ملكتنا من هذه الرؤيا هادئة قوية وارتاحت بالله وهي تشعر بعذوبة فائقة الوصف جعلتها تـُنَشِف دموعها. وهكاذ فإن فتوة هذا السِر المظطرم بالمحبة تجددت حتى تحلـَّـق بالأكثر في غور الألوهة الواسعة. لقد ارتقت إليها عالياً حتى أكتشفت غرائب مُدهشة لاتستطيع أي خليقة اخرى فهمها. فحمدت عليها الملك الأكبر بإندفاع وتسابيح الشكر. وهكذا فتواضعها وفضائلها الأخرى كانت تنمو بالنسبة للإنعامات السماوية التي كانت نحصل عليها . وكانت تطلب في صلاتها العادية ان تتـمَّم في كل شيء ماهو مُستحب بالأكثر لدى السيد . وكان ذلك في نهاية عامها الثاني عشر.
إرشادات العــذراء الكليـة القداســة
ياأبنتي ، إن افضل علم للخليقة هو أن تستلم بين يدي الخالق . هو يعلم لماذا خلقها وكيف يجب عليه أن يرعاها . إنه يوجه كلَّ الأحداث حتى تصبح مفيدة لجميع الذين يضعون به ثقتهم. إنه يُحزنهم ويصلحهم بالمصائب ، يُعزيهم ويحييهم بنعمـهِ ، إنه يُنعشهم بوعود ويخفيهم بتهديدات. يتوارى عنهم فيزيد فيهم شوق حبِّهِ ، ويظهر ليُكافىء أمانتهم ، وبهذا التقلب العجيب يُنمِّـي فيهم جمالات الحياة. وهكذا كان تصرّفه نحوي . إعتبارا لضعفي ، كان يمزج التعزيات مع ملاحقات العدّو ، وأظطهادات الخلائق وفقدان الأهل وتخلي الجميع ، وبكلمةٍ واحدة مع جميع تجاربي.
كم من الخيرات يفقد البشر الذين لايسبرون غور هذه الحكمة. فبإ تكالهم على فطنتهم العمياء يخسرون العون الإلهي . فإذا ماحصلوا على غرضهم بواسطة حكمتهم البشرية والشيطانية يظنوّن أنفسهم سعداء بتعاستهم ويرشفون بلذة حسية سـمَّ هلاكهك الابدي المُميت من خلال العذوبات الخداعة التي يتذوقونها بفقدانهم عداوة الله.
ضعي ياابنتي ك اهتماماتك في العناية الإلهية فإن حكمتها وقوتها لاتـُحَد . إن الله يُحُبِكِ أكثر مما تحبِين أنتِ نفسكِ ويهيء لك خيرات أكبر بكثير مما يمكنك أن تبتغين.
بثقة فيه لاتنزعزع تشتركين بالطوبى السماوية وانتِ بهدوء ضميرك . وإن كنتِ ترزحين تحت خضَمّ أمواج التجارب والمعاكسات ثقي وتألمي بصبر ، وهكذا لاتخسرين ثمن النِعمة ومسرة العَلي .
وهذه ، ياأبنتي ، أمثولة أعود إليها غالباً بسبب أهميتها العظمى : يجب أن تعرفي وتحبي الصليب ، ففيه تتلاقى إرادة ورضى الله .
وإن لم يكن البشر قـُساة إلى هذه الدرجة لكانوا يطلبونه من أجل مسرتهُ فقط لأن الخادم الصالح عليه أن يفضل دوماً رضى سيدهُ على رفاهيته الخاصة . وهكذا كم من الفوائد يقتنون لأنفسهم. أليس من الضروري أن يتالم الاولاد الخطأة مع أبيهم البار وتتحد الفروع بالرأس حتى تجني ثمار الفداء ؟ يجب أن تتألم معه كي تفرح معـهُ.
ولكي تـُفرحي ياابنتي ، عريسك الإلهي ، زيني نفسكِ إاذا بلآلىء الألم ، وفضِّلي أوجاع صليبه على عذوبة ملاطفاته ، لأن محبة الذات تأخذ نصيبها بالتعزيات، بينما الحُب الإلهي يوجد في الشدائد دون سواه.
فقولي إذاً لله دون إنقطاع وبكل صدق : ((هاأنذا ياسيدي ماذا تريد مني ؟ )) وكوني دوماً مستعدة لتعملي كل ماهو أحـَبُّ إليه بالأكثر ، وتحاشي كلُ مالايرضيهِ يجب أن لاتظهر لك اية هفوة أنها صغيرة . ومهما تكُن المكافأت كبيرة ، التي يُخبـِئها الله للنفوس التي تجتهد أن تعيش هكذا حسب مرضاتهِ ، فلا يمكن أن نغالي بها.