مدينــة الله السريــة
الفصـــــل الثامـــن
تقــدمـة مـريـم إلى الهيكـل
لقد ورد في خطط الله بان يكون تابوت العهد القديم مُكَرماً ،لأنه كان صورة للعهد الجديد أعني به مريم أم الكلمة المتجسد . ولكن لم يشأ الله رغم ذلك أن تـُعامل مريم على هذه الارض بالعظمة التي كانت تستحقها ، لأنه لا يريد بالحقيقة أن يكون مختاروه مُعَرضين لأخطار المجد الارضي الذي يعرضهم له الإكرام الموجه إليهم من البشر أمثالهم. فقسم من المكافأة يستحقونه بآلامهم وأشغالهم وفضائلهم ،إلى أن يُنزع وترُ من قلبهم ويُعطى للمعجبين بهم.
وقد طُبِقـَت بالأخص هذه الحكمة عل العذراء الكلية القداسة. فيجب أن يتعلّـم البشر منها ومن إبنها الإلهي أن يَحتقروا أمجاد الأرض الزائفة ويرغبوا في أن يكونوا منسين عائشين في العزلة والإحتقار والمسكَنة. من أجل ذلك أراد الله أن لاتكون مريم حياتها على الارض معروفة
ولامُمجدة كما كانت تستحق ، وهكذا إتجهت بكل بساطة غلى هيكل أورشليم بدون أي إحتفال ظاهر.
لم يصطحبها إلى الهيكل غير القديس يواكيم والقديسة حنة برفقة بعض الاهل فقط. غير أنه كان هناك موكب عظيم لم يشاهد غير العذراء مريم وحدها ، وكان هذا الموكب جوقة من الملائكة إنضمت إلى حرّاسها الملائكة العاديين ، والجميع يرنمون معاً للعَليّ التسابيح والأناشيد
بأنغام شجيــة.
أخذ القديس يواكيم والقديسة حنة يد إبنتهما المًكَرَمة ودخلوا إلى الهيكل وبعد أن رفعوا صلوات حارة قدّموها للرب بينما كانت هي تكرِس ذاتها له بكليتها. ووسط أضواء ساطعة ملأت هذا المكان سمعت صوتاً إلهياً كان يتقبل تقدمتها. وبعدئذ أخذ الأب والأم مريم وقدّماها للكاهن فباركها، وقادوها معاً إلى المَسكن كانت تتربّى الفتيات بالقداسة إلى أن يحين زواجُهُنَّ.
وقد بلغوا الهيكل بصعودهُنَّ خمس عشرة درجة . فعلى الدرجه الاولى سمح الكاهن لمريم بأن تسأذن أهلها بالأنصراف ، فركعت أمامهما وقبَلت يديهما طالبة صلواتهما وبركتهما فمنحاها إياها مع كثير من الحنان والدموع . ثم صعدت وحدها الدرجات الخمس عشرة دون أن تـُدير رأسها إلى الوراء، أو أن تذرف دمعة واحدة. ولكن بفرح فائق الطبيعة وجلال أدهش الجميع . فسلـَّمَ سمعان، الكاهن الأكبر، مريم إلى عهدة وعناية النسوة الورعات المُكلفات بهذه المهمه وبين هولاء كانت حنة النبية التي خصصتها العناية الإلهية كي تكون مُعَلمة لتلك التي كانت مُعَلمة الخلائق كافة. فسألتها الطفلة القديسة راكعة وبتواضع عميق ان تـُباركها وتـُوجهها وتحتمل بصبر نقائصها . فأجابتها حنة بانها ستجد فيها أُماً مملوءة تضحية ومَحبة. وبعد هذا الحديث الأول قدَّمت نفسها لرفيقاتها وسلـَّمت عليهُنَّ بتواضع وقبـَّلتـُهُنَّ جميعاً وشكرتـُهُنَّ على قبلوها بينهُنَّ على الرغم أنها لم تكُن أهلاَ لذلك وأستعطفتـُهُنَّ أن يُعلِمنها ويأمرنها بكل مايتوجب عليها فعلهُ.
ولما اصبحت وحدها في غرفتها الصغيرة، سجدت وقـَبلت الأرض التي كانت جزءاً من الهيكل المقدس والذي كان يحويها بالرغم من قلة جدارتها وسجدت للسيد شاكرة إياهُ على حصنها هذا. ثم قالت لملائكتها: أيها الأمراء السماويون ، اصدقائي الأمناء ، ارجو منكم أن تـُعَلـُموني مايجب عليَّ فعلهُ لأتمم مشيئة الرب وأطيع كهنتهُ ومُعَلمتي ورفيقاتي. ثم وجَّهت أخيرا لملائكتها هولاء الأثنى عشر هذه الصلاة التي أوحاها إليها تقواها البنوي )) إذهبوا يا رسلي القديسين ، إذهبوا وعزوا والدّي بأحزانهما ووحدتهما ، إذا سمح لكم الرب.
فتمم المللئكة للحال رسالة ملكتهم . وبينما كانت تتكلم مع بقية الملائكة شعرت بفعل إلهي جعلها روحانية وأدخلها في إنجذاب حارّ . وبأمر من الله هيأها السرافيم الذي كانوا بخدمتها بانوار جديدة ، وبقوى جديدة لتقبل الموهبة الكبرى ، فأختطفت إلى السماء العليا بنفسها وجسدها وسط غيوم براقة حيث استقبلها الثالوث الأقدس أحسن استقبال.
فسجدت بحضوره الإلهي وعَبدَته بتواضع عميق للغاية ثم تمتعت بعد ذلك بالرؤيا الإلهية التي لايستطيع اي إنسان أن يعبِر عن مفاعيلها. فقال لها السيد الرب أريد ياأبنتي أن تـُشاهدي في المرة الثانية المواهب التي احفظها للنفوس التي سوف تـُشترى بدم الحَمل الذي سيموت لأجلها. ثم يجب أن تـَعرفي ماهي الكنوز التي بحوزتي وسأمجد بها المتواضعين وأغني الفقراء واعزز المُحترقين واكافىء كل من يعمل أو يتألم من أجلي.
وقد كشف لها ايضا عن أسرار كبيرة فأجابت السيدة :(( أيها الرب العَلي والرفيع ماذا ستصبح حقارتي أمام عَظمتك ،أعترف بأنني لست أهلاً لكل ما تكشفه لي فانا لست سوى غبار. تمِم فيّ مشيئتك القدوسة ورغبتك الصالحة وبما أنك تـُقدر هكذا الاحزان والآلام والاحتقار كما تـُقدر الصبر واللطف ، لا تسمح بأن أحرم من هذا الكنز الثمين وهذه الضمانة الأكيدة لمحبتك)).
فأكد لها الرب أنه استجاب صلاتها وأنه يخبىء لها مهام ومتاعب ستحتملها من أجل مجد اسمهُ. فشكرته على ذلك وسألته أن يسمح لها أن تبرز بحضرته الإلهية نذوراتها الاربعة :
نذر العفة والفقر والطاعة والحصن الدائم في الهيكل. فاجابها السيد الرب)) إن المستقبل الذي أهيته لك ياأبنتي لايسمح لك بأن تتمِمي المقاصد التقوية حسب رغبتك أنتِ. وبالرغم من ذلك فإني أقبل بنذر العفة أما بالنسبة لبقية النذور فتتصرفين حسب استطاعتك وحسب الظروف كما لو كانت ناذرة. سيأتي يوم تـُبرز فيه عذارى غيرك هذه النذور من أجل خدمتي وأقتداه بك ينتمينَ إلى جمعيات مُختلفة وهكذا ستصبحين أُماً لعدد كبير من الفتيات .
عندئذ أبرزت نذر العفة وأخذت على نفسها بأن تنقاد بدقة لمشيئة الاخرين . وأمتازت بعد ذلك بممارسة هذه النذور اسمى من كل الذين أبرزها من بعد. وبعدئذ فقدت الرؤيا الجلية لألوهية ولكن من دون أن تخرج من حضرتها وحصلت على عدة رؤى خيالية.
وخلال إحدى هذه الرؤى أقترب منها بآمر الله بعض من السرافيم الأكثر إشرافا وزينوها على هذا النحو : أفاضوا أولاً على حواسها نوراً جعلها كلية الجمال والبسوها ثوباً ابيض مشرقا رمز طهارتها وزناراً من الحجارة الكريمة المختلفة الألوان رمز تعدد وتالق فضائلها وزينوا عنقها بعقد بَّراق ، رمز الإيمان والرجاء والمحبة . ووضع الروح القدس في أنامها سبعة خواتم رائعة الجمال ترمز إلى مواهبه السبع بدرجة سامية للغاية .وأخيراً وضع الثالوث الاقدس على رأسها إكليلاً ملوكياً من معدن ثمين جداً فيه حجارة كريمة مشرقة اشد من الشمس ، وهذا يعني بأنها قد تـُوجت ملكة على السماء. وتاكيداً لهذه المَنزلة الرفيعة رُصِعَ ثوبها بحروف من ذهب خالص وشديد اللمعان ، تعني أن مريم هي إبنة الأب الأزلي وعروس الروح القدس وأُم النور الحقيقي ، ولكنَّ الصفة الأخيرة لم تكن واضحة أمامها بينما كانت تـُدهش أنظار الملائكة.. وخرج إذ ذلك صوت من عرش الثالوث الاقدس يقول)) أنتِ عروسنا المحبوبة جداً والمختارة من بين جميع الخلائق على مدى الدهور ، الملائكة تخدمك وجميع الأجيال والأمم يدعونك كلية الطوبى . وهكذا هَّيأها العَلي لإستقباله بداخلها بشخص الكلمة)).
وبعد كل هذا الفيض من النِعَم وجدت مريم ذاتها غارقة في لجة من الدهشة والحب والتواضع فقالت((ياإلهي ، الذي لايُدرك من أنت َومن أنا حتى تتنازل وتنظر اليَّ وتمجد هكذا من هي ليست سوى تـُراب؟ إني أكتشف فيكَ عظمتكَ غير المتناهية إزاء عدمي . إني أعجب كيف أن جلالك غير المتناهي يتنازل نحو دويدة حقيرة لاتستحق سوى الإحتقار . وبما أنك ترتضي ذلك ياسيدي وملكي فأنا أقبل أن تكون عروس نفسي ، ولكن سأظل دوماً خادمتك. إن عقلي وقلبي لن يكون لهما أي بغية أو هدف سواك أنتَ خيري الأسمى وحُبّي الأوحد دون أن تتوقف ابصاري عند أية خليقة بشرية)).
فتقبلَ الرب برضى لايُقدَّر هذا القبول من الملكة السماوية ، ووضع بين يديها كنوز قدرته ونعمهِ وأمرها ان تطلب منه ماتشاء مؤكداً لها بأنهُ لن يرفض لها طلباً البتة. فأجابت عندئذٍ:
(( أرجوك ياإلهي ، أرسل ابنك الوحيد غلى العالم من أجل خلاص البشر. وأغدق نِعَمَكَ وصلاحك اكثر فأكثر على أهلي ، غزِ الفقراء والمحزونين وأجعلني أُتمم كما يجب كل مايروق لك بالأكثر)).
عندئذ هللت الأرواح الملائكية مُحتفلة بأناشيد جديدة، ومُمجدةً صانع هذه العظائم . وواكب الملائكة الذي عينهم العَلي بموسيقى سماوية ملكتهم الطلة في اثناء نزولها من السماء ووضعوها في نفس المكان الذي كانت فيه سابقاَ . وماأن عادت إلى مقرها حتى عزمت أن تمارس جميع ماوعدت به الرب بالنسبة إلى نذور الديانة. فاسرعت إلى مُعَلمتها وسلمتها جميع الاشياء التي أعطاها إياها أبواها لتتصرف بها كما تشاء. فأخذت منها حنة بإلهام إلهي كل ما قدمته لها ، ولم تترك لها سوى الملابس التي كانت ترتديها ، بنوع أنها أصبحت بحالة فقر كاملة, وحتى تتمكن من ممارسة الطاعة طلبت برنامجاً خاصاً .
وبعدما وضع لها هذا البرنامج القديس سمعان مع القديسة حنة بمؤازرة العناية الإلهية ، استدعياها ليسلماها إياه. فخرَّت على ركبتها أمامهما وعندما أمراها بالنهوض طلبت منهما بتواضع أن يسمحا لها بأن تظلَّ جاثية إحتراماً لمقامهما ووقارهما.
قال لها الكاهن: ((ياأبنتي ، إن العَلي قادك إلى الهيكل وأنتِ بَعد حَدِثة السن. هذه نِعمَة عُظمى يجب أن تشكري الرب عليها بخدمتك إياهُ من كل قلبكِ ، وأن تقدمي ذاتك بجملتها لممارسة جميع الفضائل . بادري منذ الآن وأنحني تحت نيره الإلهي حتى يصبح حمله سهلاً عليك طيلة أيام حياتك واطيعي مُعلمتكِ) . فاجابت مريم : ((ياسيدي ، بما أنك َ رسول العَلي ، وانتِ يامُعلمتي أرجو كما أن تـُعلماني وتامراني بجميع مايتوجب عليِّ فعلَهُ حتى لا أخدع بشيء, واني أؤكد لكما أن ليس لي اية رغبة سوى أن أُتمم بأنقياد إرادتكما)).
فنظَّـَّم لها الكاهن الأعظم مشاغلها على الطريقة التالية : (( تحضرين بكثير من التقوى تقاريظ السيد الرب وتبتهلين إليه من أجل هيكلهُ ، وأطلبي منه أن يرسل المسيح المُنتظـَر . تذهبين إلى الراحة الساعة الثامنة مساءً وتنهضين مع الفجر لصلاة الساعه الثالثة وبعد ئذ تنهمكين بالأعمال اليدويه ودراسة الكتب المقدسة حتى المساء, ستحافظين خفية على قناعة في الطعام وأخيراً تكونين متواضعة في كل شيء ، مُحِبـَّة وخاضعة بالكلية لمعلمتك التي تتلقين منها جميع المعلومات)).
بعد أن استمعت مريم لهذا الحديث وهي جاثية على ركبتها، طلبت بركة الكاهن ومعلمتها اللذين قدمت لهما قدوة صالحة بتصرفها ثم قـَبلت يدهما وأنصرفت لتزاول بدقة جميع ماأمرت به على الرغم من أن رؤيتها لهذه الامور كانت أسمى من ذلك لأنها تعلم أنه من الافضل أن تكون طاعتها عمياء من أن تتبع مشاعرها الخاصة مهما تكن صالحة . إنه الله حقا الذي يرى ويعمل بالرؤساء وغذا لم نـُطِعهُم نكون كَمن يعمل تحت تأثير التجارب والاهواء والأوهام.
حققت ملكتنا تواضعها الرفيع طالبةً من معلمتها أن تسمح لها بخدمة رفيقاتها وأن تستخدمها بأحقر الوظائف ككناسة الغرف وغسل الصحون.
كانت تطلب كل صباح ومساء بركة معلمتها وتقبِل يدها وحتى أرجلها عندما كانت تسمح لها بذلك. كانت تستفيد من كلِ فرصة سانحة لتقوم بعمل الآخرين وتستاثر بأصعب الأشياء . وكانت بمعاملتها مع الغير سريعة الإتضاع والكياسة والمروءة والاحترام والخضوع حتى مع رفيقاتها اللواتي ملكت قلوبُهُنَّ. ولذلك لم يكُن أحد يُفلت من جاذبية شخصها الفائقة الإدراك لأنه كان يرى فيها مجموعة عجيبة من الفضائل الطبيعية والإلهية . كانت ذات قناعة مُفرطة في الطعام وتحرم نفسها عمداً من النوم الذي كان عندها قصيراً عادة . وعوض أن تسمح لتفسها بشيء إضافي ، كانت تحرم نفسها الشيء الضروري . كانت مُنظمة وقتها بنوع أن كلاً من أعمالها كان يأخذ منه القسط المناسب . كانت تقرأ كثيراً في الكتب المقدسة وبالأخص تلك التي كانت تتكلم عن التجسد الإلهي.
كانت تسبر غورها بفضل علمها الموحى بنوع أنها كانت تستطيع شرح الأسرار التي كانت تتحدث بها مع ملائكتها . كانت تتعمق بكل الطقوس التي كانت تـُقام في الهيكل ، فتـُحضرها
وتتعلمها ظاهريا كأنها تجهلها . كانت في كل شيء تـُبرهن عن ذكاء كبير وحكمةٍ وكمالٍ تـُبهر بها الجميع ، ولكن الله كان يُخفف شيئاً من الإعجاب بهذه الشهادة التي كان يشترك فيها حتى الملائكة أنفسهم. وكانت تنمو في السِن والنِعمَة أمام الله والناس مع تقوى دوماً الطبيعة.
وكان الله لايتأخر أبداً من أن يَغدُق عليها من إنعاماته العجيبة. ولكي يُجَملها أكثر فأكثر ، ويُخرجَ لها كل يوم من كنوزهُ غير المتناهية وخيراتهِ الجديدة المُخصصة لها وحـدها .
كانت تتجاوب مع هذه النِعَم بأمانة عـُظمـى حتى إن الله يستريح فيها للغاية. كانت ماخوذة بالأخص بعجائب التجسد وتتكلم عنها عالباً بكل حنـُوِ مع ملائكتها الذين كانوا يُلهبون قلبها العذاري بشهب محبته الإلهية وتخاطبهم قائلة:(( ياأمرائي ، هل يستطيع الخالق أن يُولد من خليقة ، والذي يُزَين الكون يظهر قابل الحـس ، وأن أبنة الطبيعة البشرية تصبح سعيدة أن تـُسمى إبناً لها من هو بذاته أخرجها من العَدم وتـُدعى أَماً للذي له وقد خلق الكون ؟ كم أود أن
أكون خادمة هذهِ الأم وهذا الأبن ! ))
ألفت أناشيد تفوق بنوعها وكميتها وجمالها جميع ماتملكهُ الكنيسة . أناشيد تتضمن أشياء يجهلها أعظم القديسين إيحاءً ةمعرفة , هكذا شاء الله ان الكنيسة المجاهدة تكتفي بهذه الحقائق الموحاة من مؤلفين مُكرسين وقديسين . وأحتفظ لذاته كشف بقية الحقائق للكنيسة الظافرة بطريقة تتناسب ومجد الطوباويين العارض.
وبالرغم من ذلك فالعذراء الفائقة القداسة كانت دوماً مُتضعة ولم تـُظهر البتة للبشر العظائم التي كانت هي موضوعها بل إلتزمت بحفظها خفية . وهذا مما جعل فيما بعد القديس يوحنا يكشف في سفر الرؤيا الأسرار التي كانت تختص بالعذراء بشكل ألغاز نسمعها أيضا في الكنيسة المجاهدة أو الكنيسة الظافرة.
إرشادات العـذراء الكليـة القـداسـة
ياإبنتي ، إن أعظم موهبة نلتها من العَلي هي هذه التي كتبتها مؤخراً واستحقيتِ برَغبتي هذه تأسيس الحياة الرهبانيه فهي مرفأ أمين يقي من عواصف العالم . ولذا فأكبر سعادة يمكن لله أن يهبها لإحدى النفوس هو أن يدعوها لتكريسها بكليتها لخدمته ولهذا السبب عينهُ يستنفذ الشيطان وسعه حتى يثنيها عن هذه الدعوة السامية.
فالحياة الرهبانية إذا ما مورست بالحرارة المناسبة تجعلهُ يستشيط غيظاً لكونها تقدِس الإنسان وتـُفرح الملائكة وتـُمجد الله.
ففي الحياة الرهبانية علينا أن نمارس النذور التي بواسطتها نأخذ حرية الشر حتى نؤكد حرية الخير ، نتحرَّر من عبودية الأهواء ، وبفضل سيطرتنا عليها نتمكن من أن لانتبع سوى إلهامات الروح القدس فتصبح الحياة ملائكية .
أخيراً يستحيل أن نتمكن هنا من فهم هذه الكنوز التي نحصل عليها . فتأكدي ياأبنتي أن بأستطاعة الرهبان الحقيقيين الحصول على استحقاقات تـُعادل وحتى تفوق استحقاقات الشهداء.
فنذر الطاعة هو اكبر النذور لأنه يتطلب منَّا تجرداً كاملاً عن إرادتنا الذاتية حتى نـُخضعها لإرادة الرئيس بنوع أنها تتطابق معها بسرعة ورضى ، بدون بحثٍ أو تحليل وبالأخص بدون
تذمر. فالرؤساء يقومون بالحقيقة مقام الله الذي ينيرهم فبالخضوع لهم نكون بأمان. فأبني الإلهي الذي كان طائعاً حتى الصليب أستحق للطائعين امتيازات فائقة.
أما نذر الفقر ، فهو التخلي بشرف عن عبء الأشياء الدنيوية الثقيل التي لاتستأهل أن نسعى إليها أو نحفظها. كم من مشاغل وهلاك أبدي تـُسبب للإنسان ، فأننا لانستحوذ ابداً على هذه الخيرات الدنيوية إلا بقدر مانحتقرها.
فإذا ماتحرر المرء من هذه القيود يصبح أهلاً لتقـَبُل الكنوز الإلهية التي خـُلقنا من أجلها بقدرة غير متناهية. فحسب المخطط الإلهي علينا أن لانملك من المنافع الوقتية إلا ماهو ضروري لحفظ الحياة ويجب أن نتخلى عن كل ماهو زائد.
فميزة الفقر: الغنى المقدس ، هي أن تحرم الراهب نفسهُ حتى من بعض الاشياء الضرورية وبالتالي أريدك أن لاتعلقي قلبك باي شيء مهما كان كبيراً ام صغيراً ضروريا او زائدا. استعملي الأطعمة الأكثر عادية والأقمشة الأكثر فقراً والملابس الأكثر ترقيعا.
نذر العفة يقوم على طهارة النفس والجسم، هذه هي الفضيلة التي تقرب بالأكثر النفس المُكرسة لله من عريسها الإلهي، لأنهُ بحفظه إياهُ من الفساد الأرضي يجعلها روحانية ملائكية وحتى إلهية بنوع من المشاركة مع الله. تنير العقل وتشرّف القلب وتجعل الفضائل كافة . ولكن من السهل جدا فقد فضيلة العفة ، لإنها تسكن في قصر كثير الأبواب والشبابيك ، يستطيع اعداء النفس أن يقتحموها. وألد هولاء هو اللحم . وهذه النوافذ هي الحواسٍ فيجب إذاً أن نـُسيطر عليها بصرامة شديدة ونعمل معها عقدا لا يُنتهك : بأن لانجيز استعمالها إلا بطريقة تتلائم مع العقل من أجل تمجيد الخالق .
يجب أن نحترس من أن نلمس وحتى أن ننظر إلى اية خليقة بشرية حتى لاتشغل مخليتنا صورتها أو ذكرها . فالمحافظة على الطهارة تتطلب كثيراً من هذا الأحتراس.
نذر الحصن أخيراً هو سياج المحبة وسائر الفضائل ، هو الحرز الأمين حيث تـُحافظ النفس على نقاوتها البراقة ، بينما تـظلم وتصل حتى إلى الضياع في عاصفة الظروف السيئة .
وأخيراً فلا يجب أن يكون الحصن مكاناً محدودا لأنه بإمكان الإنسان أن يتمتع بداخله اكثر منه في الخارج بالأطلاع الواسع على معرفة الله وكمالاته وأسراره واعماله العجيبة . يَحسُن أن نسترسل ونتمتع في هذه الفضاء اللامتناهي وبغير ذلك فأكبر حرية تغـدو كاضيق سجن.
أما بالنسبة إلي ، فقد حافظت ياابنتي ، على جميع هذه النذور بأكبر كمال ممكن للحالة التي كنت فيها. لم اكن أنظر ابداً إلى رجل وجهاً إلى وجه ما عدا عريسي القـُدوس ، حتى ولا إلى الملائكة عندما كانوا يظهرون لي بشكل بشري. فكنت أحذر من كل مودّة أرضية ، وليس عندي أي تشبت بإرادتي الخاصة إلا بالله وحدهُ.