مدينة الله السريه
الفصـــــل الـــرابـــــــع
عـــــــودة مـريــــــــم إلــــى النـــاصــرة
استغرق السفر اربعة ايام . وكانت احاديث الزوجين كلها سماوية. وغالباً ما كان يحصل بينهما
بعض المعاكسات بسبب التواضع ، ولكن إذا كان يوسف يأمر كانت مريم تـُطيع للحال لأنها كانت تعتبر خضوعها للطاعة تواضعاً كبيراً. وكانت الحرارة ووعورة الطرقات تسبب لها بعض التـَعب ، ولكنها لم تكُن تستعمل أبداً السلطة المعطاة لها لتجنب هذه المتاعب . كانت تعمل بكل سرية الكثير من العجائب وتقدِس جميع النفوس المستأهلة . وخلـَصت إمرأة من أثامها ومن عدة شياطين تستولي عليها وقد كانت صاحبة فضيلة كبيرة من قبل ، ولكنها أنزلقت بعدئذٍ شيئاً فشيئاً بلـُجة الخطايا . واردَت ايضاً إلى الإيمان صاحب فندق شرير أحسن استقبالها رغم ذلك ، ونالت له مع صلاح النفس تزايد خيراته المادية.
هذه العجائب جعلت الشيطان يستشيط غيظاً . فجمع جميع الشياطين حوله وقال لهم : إنكم تعلمون بأية عناية وبأية غلبة أثار من الله بأهلاك النفوس التي يحبها ولكن هناك إمراة تسببُ لي كثيراً من القلق . لقد قاومتني دوماً بثبات لايُقهر . ساعدوني جميعاً لكي أتغلب عليها بأي شيء ، فوعده جميع آلهة الجحيم بالمساعدة ووضعوا معاً تصميما للمعركة الكبيرة.
ولكنَ الكلمة المُتجسد كان يسهر للدفاع عن هيكله الذي كان يغار عليه أكثر من العالم أجمع.
وأنتصب ليصدَ الحرب الجهنمية المُحضـَرة وصلـَّي للآب الأزلي أن يُعضد كثيراً أُمَه حتى تتمكن من سحق رأس الحية اللعينة. فانعم عليها عندئذٍ برؤيا حيث تقبلت فيضاً من الخيرات وسمعت هذه الأقوال المُطمِئنة : التنين الجهمني يدَعي بأنه سياخذ جميع البشر بدون إستثناء ، يجب عليك أن تاخذي قضيتي بيدك : ستحاربين باسمي وسأحارب معكِ . فامتلأت مريم بالشجاعة والقوة حتى لم يعد جميع الشياطين سوى نملة ضعيفة ، بينما كان كل منهم جهنماً بكاملها . اجابت مريم : إني بكليتي لكَ ياسيدي إعمل من خادمتك هذه مايؤول إلى مجدك الأعظم ومسرتك الصالحة ، إن كنتَ أنت فيَّ وأنا فمن يستطيع عليَّ ؟
وبينما كانت ترفع هذه الصلاة ، أعطى لوسيفوس الأمر لطغماتهِ السبع وإلى رؤسائهم أن ينشروا حولها جميع قواتهم ومهارتهم بتجربتها ضد الخطايا الرئيسية السبع. فجربتها الطغمة الأولى بالكبرياء فاصطدم الشياطين المؤلفين هذه الطغمة بقوة لاتقهر وبرائحة قداسة ، عذبتهم كثيراً من النار التي كانت تحرقهم ولكنَ غضبهم كان غير محدود حتى كانوا يعدون لاشيء ، هذا المزيد من العذاب بأمل إيذاء هذه النفس صاحبة الأمتياز . فشنوا غاراتهم عليها بمقدار من الشدة والدهاء ولكن من دون أن تستطيع أن تـُعكِر قط صفاء هدوئها أو أن تهِيج شيئاً آخر سوى إحتقارها الظافر . عندئذٍ اخذوا أشكال أجسام جسديه ومخيفة وراحوا يبعثون صراخات وعويلاً فظيعاً تعطي مفاعيل هزة أرضية تخرج من البيت نفسهُ ويصنعون غرائب أخرى حتى ترعب وتؤثِر اقله أميرة الكون ، ولكنّها حافظت على سلام عميق حتى أنها لم تلهها أقله عن تأملها . وحتى يجعل ظفرها ممجداً أكثر ، أوقف الله نِعمة الرؤى عند مريم وتركها في حالة الإيمان والفضيلة الطبيعية حيانا في هذه . وكانت تقول احياناً في هذه المعركة المشهودة:
مَـن مثـَلُ الله الذي يسكن في الاعالي ويرى المتواضعين في السماء على الارض ؟
وبهذه الكلمات كانت تـُبعد اقتراحات المُجربين الباطلة . فبدلـَت عندئذٍ هذه الذئاب الجائعة ثيابها وأخذت ملابس النِعاج تاركة وجوهها المُرعبة وتحولت إلى ملائكة من النور بمظهر جمال رفيع. لقد أنتصرت ، كانوا يقولون لملكة الظفر ، نحن قادمون لنكافىء بسالتك التي لاتـُقهر ونضع أنفسنا بخدمتك. فرأت مريم جيدا الفخ في هذه التملقات وقالت لأبنها الإلهي وهي مترفعة عنها : ياسيدي ، أنت قوتي ونوري وثقتي كلها ليست إلا في حمايتك وأرذل جميع الذين يريدون أن يعكروا صفاء مجدكَ . وتابع هولاء الطغاة ، رغم ذلك مدائحهم الخدَاعة حتى وعدوا الفتاة الأكثر تواضعاً أن يجعلوها أُمَّ المسيح المُنتظر . هكذا أراد لوسيفوس أن يجسّ نبضها حتى يعلم إن كانت تنتظر هذا الشرف ، لأن الله كان يخفي عن الجحيم أمر أمومتها الإلهية والحبل بها أيضا بغير دنس.
ولكن العذراء الحذرة للغاية أكتشفت غِشه وتابعت تاملها ببساطة وسجدت أمام الله ومجدته وأعلنت نفسها أحقر من الغبار الذي تحت اقدامها. هكذا جعلت شياطين الطغمة الأولى تعود القهقري .
وتقدَم شياطين الطغمة الثانية ليجرِبوها بالبخل . فقدموا لها الفضة والذهب والأحجار الكريمة وقالوا لها : إن الله ارسل لك هذه الكنوز حتى توزعيها على الفقراء . وبمّا انها رفضت غيروا خططهم واضافوا ؛ أليس هذا قلة عدل أن تكوني فقيرة للغاية أنت القديسة الكبيرة ، أوَليس هذا انقلابا للمقاييس أن يعيش الصالحون في فاقة والأشرار في سِعة ؟ وتجنبت ايضاً الملكة الكلية الفطنة من أن تحاور مع أعدائها الذين يعرفون جيد اً غلط أقوالهم ، وأكتفت بأن تحتقرهم وترفع نفسها نحو السيد كنزها اللامتناهي وبهذه الحكمة رمت مُجرّبيها المقهورين بإرتباك وغموم جديده.
وتقدم شياطين الطغمة الثالثة الذين يمارسون تجاربهم ضد ضعف الشهوَة الجسدية. فأتوا بدورهم مع أمير الرجس الذي كان يأمرهم فحاولوا عَبثاً أن يُعَكِروا صفائها بتمثليهم الأكثر شناعة . فأختلت العذراء الكثيرة الطهارة في داخلها وأوقفت عمل حواسها حتى لم تستطيع أية من هذه الصور البشعة الدخول إلى نفسها. وجددّت ايضاً مرات عديدة نذرها للعفة وأكتسبت بهذه المناسبة إستحقاقاً يفوق إستحقاقات العذارى جميعاً.
وأجتهدت الطغمة الجهنمية الرابعة أن توحي لها بشيء من قلة الصبر . فقلبت وكسَرت أيضاً جميع ما وُجد في منزلها ولكن بدون أن تنجح وتجعلها تضطرب. وللحال اعاد ملائكتها الحراس كل شيء إلى مكانهِ. وعندئذٍ أتخذ الشياطين صورة بعض النساء المعروفات من الاميرة السامية وهجمنَ عليها بغضب ووجّهَنَ لها الشتائم المؤلمة وهددّنها واخذنَ من عندها الأغراض الضرورية لها. ولكنها أكتشفت خداعهم وظلت ثابتة العزم بهدوء وسمو الأميرة. وعندما فكّروا أنها عرفتهم أحضروا أمرأة حقيقية وجعلوها تستشيط الأميرة. وتنهال عليها بجميه الإهانات المُمكن تصورها . ولكن بعد أن تركتها تـُفرغ جام غضبها عاملتها أميرتنا الوديعة بكثير من اللـّطف والتواضع حتى جعلتها تتأثر كثيراً وتتغـَير .
وجّربتها الطغمة الخامسة بالشراهة مُقدمة لها الأطعمة اللذيذة جداً ومُحركة شهيتها. ولكنها ظلت مُتـَحفظة للغاية حتى أنها بالكاد لمحت هذه المآكـل ومع الأحتقار الذي تستحقـهُ.
أما الطغمة السادسة فقد عملت وهي فاترة الهمة لرؤيتها عدم نجاح رفيقاتها وبدون أمل مع التي كانت تشتعل حُباً لله والقريب. عملت مقارنة طويلة بين الهبات الطبيعية المزعومة والفائقة الطبيعة التي يتمتـَع الغير بها بينما كانت هي محرومة منها . وكانوا يدفعون حتى ببعض الأشخاص الذين يجيئون اليها ويتباهون بالمسّرات المُختلفة التي كانوا يحصلون عليها من العناية الإلهية. فكانت تحرضهم على معرفة الجميل نحو الله مصدر جميع الخيرات بدون ان تـُدخل أقل حسد إلى قلبها المملوء بكليته بالعطايا الإلهية .
وأخيراً جربتها الطغمة السابعة بالرغم من إخفاق الأخريات. جربتها بالكسل باعثة فيها الضجر والكآبة ونصحتها أن تتخلى عن بعض التمارين بحجة التعب ومُحرضة بعض الأشخاص على الذهاب إليها في وقت غير مناسب لتثنيها عن إهتماماتها التي كانت تقوم بها بالساعة المُحددّة لها. ولكنها إكتشفت جميع هذه الدسائس الخبيثة وأحبطت مفاعيلها بمهارتها السريعة بنوع أنَ لاشيء تمكن أن يمنعها من القيام بأعمالها بتمام الكمال .
وعند رؤية هذا الأحباط أسقتل لوسيفورس ضد أعوانهِ وذاتهِ بهيجان فائق الوصف. وقد ظنَ أن شخصية بارزة ستلد من إمراة أنتصرت عليه وعلى جماعته الاشقياء انتصاراً ساطعا.
وكوَن ضدة الثمرة التي كانت تحملها والتي كان إنتبه إليها الآن ، فورة غضب تكلم عنها القديس يوحنا بالفصل الثاني عشر من سفر الرؤيا. وقرر أن يفني بكل الطرق المُمكنة الأبن والأم معاً. فظهر للسيدة الإلهية تحت الأشكال الأكثر رُعباً ولكنـَهُ كان يشعر بقوة سرِية تـُمسك دهاءهُ فكان ينتفض كحيوان مُفترس مُكبَل بالسلاسل ويرسل عويلاً مُخيفاً ويتقيأ ناراً مع زبد ودُخان يُحرِك الهواء والارض ويقلب كلَ شيء في المنزل. ولكنَ اميرة السماء كانت ترى وتسمع كل هذا بدون أي تاثر وبدون أن تفقد شيئاً من هدوئها الداخلي والخارجي .
عندئذٍ فتح لوسيفورس ضدها فـَمَهُ المملوء بالأكاذيب والشتائم وعرض أمامها جميع الأباطيل الجهنمية التي أستنبطها . سمحت العناية الإلهية بذلك حتى تتمكن الكنيسة المُقدسة أن تترَنم بأن ملكتها الإلهية هي وحدها التي تـَغَلبت على جميع الهرطقات وقد عُرضت كلها أمامها وكانت جميعها مرفوضة بفضل إستحقاقات إيمانها غير المُـتزعزع .
وحاول لوسيفورس عَبثاً هو وباقي الشياطين الذين ظهروا لها بطريقة حسّية ، تجربة تشويش عقلها وهي لم تـَكُن تتنازل لتصغي إليهم. وقد أمرتهم بالعكس أحياناً أن يصمتوا ويلمسوا الارض بٍفمهم وبينما هم في هذه الحالة من الذُ ُل كانت تنشد المدائح للعَليّ. وكل كلمة منها كانت كَسهمِ من النار يُعذبهم من سهم جهنم . وكانوا يريدون الهرب ولكنَ الله كان يُمسكهم حتى يُخزي كِبريائهم ويزيد من مجد أمِهِ. وكان الله يريد ان يتضعوا حتى يرجوها أن تـُبعدهم إلى حيث يلذّ ّ لله. وقد أمرتهم أن ينزلوا إلى الدركات المُظلمة .
وعندما سُمَحَ للوسيفورس بالخروج من هناك أعاده غيظهُ الحَقود للحرب. فزرع الخلاف بين العديد من جيران القديس يوسف وأقنعهم ، مُتخذاً شكل شخص صديق ،أنَ مريم كانت سبب هذا التشويش. فاتوا إليها وأوسعوها إهانة . ولم تفقد هدوئها وتواضعها الدائم البطولي وبدلَ أن تجابههم ببراءتها ، رجتهم أن يسامحوا أغلاطها إن كانت مُخطئة ، وكلـَمتهم بعدئذٍ بكثير من اللِطف والصلاح حتى إنسحبوا من عندها مُتعَزين وأصدقاء.
وبالرغم من هذا الإنهزام الجديد لم يُفقد لوسيفورس الأمل كلِياً من الوصول للتغلب عليها . فقد جمع طغماتهِ كلهم وهجم بُغتة ً معهم على الأميرة السماوية غير المقهورة مجددّين معا جميع التجارب السابقة ولكنَ سمَو نفسها وقلبها لم يمسَه أيُ تشويش من جميع هذه المداهنات والتهديدات والكثير من المغالطات والعنف .((مَـن مثلُ الله)) صرخت بحب ، وأنتَ يا أمير الظُلمات قالت بسلطة على أبليس : إني آمرك أن تعود مع رُسلكَ إلى هَواتك الجهنمية من حيث لن تخرج إلا حين يُسمح لكَ بذلك . فجرَب العصيان ولكن قوة غلا َبة دهورتهُ إلى سجنهُ الناري.
فأنتصرت حينئذٍ ملكتنا السماوية على قوات الجحيم إنتصارا كبيراً تحرزهُ البتة اية خليفة. فظهرها لها السيد واغناها بمواهب جديدة كما ظهر لها أيضاً الألوف من ملائكتها الحراس بأشكال جسمية وترنـَموا بمجدها ومجد العَليّ بأناشيد التسبيح.
(إنك ممتلئة نعمة وكمالاً) كانوا يقولون : أنتِ شرف وفرح السما ءوالارض ، بينما هي اعادت كل شيء لله خالق كلَّ خير .
واتاها أيضاً إمتحان مؤلم من نوع آخر من خطيبها الملائكي . كان الشيطان قد جرّبه عبثاً مشوِشاً إياه بإيحائه أنَ خطيبتهُ لم تكُن تعمل كافياً ونظراً لفقرهما كانت على خطأ من ان تصرف كثيراً من الوقت في الخلوة والصلاة. وكان قد رمى بعيداً هذه الإقتراحات الخشنة
بفضل تدخـّل مريم التي كانت ترى أفكارهُ. ولكن لم يكن الأمر هكذا تجاه الحزن الذي كان يعتريه بشكل حسي أكثر فأكثر من جرآء نذر العفة الكاملة الذي جدداه معاً . وإن كان يظـنُ بهفوة ، كان يكاد يموت من الألم . ولكنـَه كان مـُقتنعاً من براءة عروسهُ الطاهرة جداً حتى أنَ اقل شك تجاهها كان يذوب في ذهنه كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس أو يتبدد الدخان بقوة الريح. ومع ذلك أي عار وخطر سيصيب مريم إن ظلـّت امومتها سرية ؟
هذا الأعتبار كان يرمي نفسهً بسهام ألوف الآلام . فيسرع عندئذٍ إلى الصلاة وكان يقول لله إن كانت خطاياي قد إستحقت سخطك عليَّ فالتفت إليَّ بحلمك. إنك ترى أن مايجدُ عليّ وهو أني لا استطيع أن أخفي سراً يُعذبني . فليضىء نورك الإلهي عقلي وقلبي ويُرشدني حتى أتمم مايناسب بالكثر مسرتك الصالحة !
ولكنـّه لم يكن بوسعه أن يخفي حزنهُ تماماً دون أن يتسرّب شيء إلى الخارج فكان يظهر احياناً مهموماً وكان يتكلم مع مريم بأقل لياقة من قبِل . كانت ترى جيداً همومه ولكنَها لم ترّ نفسها مُجبرة على تبديدها بكشفها له السر . والأمر العجيب للغاية أن شهادتها نفسها كانت تكاد تكون غير كافية ويتوجّب تدخل الله في الأمر . وبينما كانت تنتـظر بثقة وصبر في الحزن والصلاة ، كانت مريم تظهر نحو خطيبها السامي إحتراماً اكثر محبة ومجاملات مُتضعة وكانت
تخدمه أحياناً وهي راكعة على ركبتها . وهكذا أعطت العناية الإلهية للواحد والآخر فرصة ممارسة الفضائل ببطولة . وكانت تـُسّر بخضوع قلبيهما التقي وسط هذه الشجون الحساسة جــداً.
ورغم ذلك فقد ضعفت صحة يوسف تحت وطأة الآلام الكثيرة وفي حيرته هذه توقف عند فكرة الأبتعاد . أما العذراء الكلية القداسة التي عرفت عزمه هذا صلـّت لملائكتها الحراس بأن يثنينه عن قصده . وبمـَا أنهم لم يتوفقوا إلى ذلك توجَّهت لأبنها الإلهي قائلة له بأكبر حرارة ممكنة : إن كنت ُ قد نـلت حظوة أمامك وإن لم أكن سوى رمادا وترابا تنازل برأفتك وعزِ خادمك يوسف ولاتسمح له أن يتمم قصـده . ـــ ياأمي المحبوبة جداً ، أجابها الكلمة المُتجسد ، إني سأنقذ عن خادمي يوسف من شجونه . وحين سأكشف له بواسطة الملاك السر الذي يجهله تستطعين أن تقولي له أنت بوضوح جميع ما صنعت فيك . سأملأه من روحي وسيكون معك في كل مناسبة .
فشكرت مريم إبنها الإلهي على الجواب المُعزي ورأت كم كان مفيداً لخطيبها القديس أن يتهيأ بهذا الامتحان الطويل لمعرفة الأشياء العظيمة التي ستوكل إليه.
تحت وطأة ألمهُ كان قد قررَ الذهاب في الليلة المُقبلة عند منتصف الليل . وعندما بدأ بالصلاة كعادته قال للسيد : ياإله أبائي الأعظم ، إني لم أرَ دواءً آخر لوضعي إلا الذهاب إلى صحراء حيث لاأحد يَعرفني . لا تـُهملني ياإلهي لأني أودُ وابتغي مايعود إلى مجدك بالأكثر . وسجد بعدئذٍ أمام عزتهُ وعمل نذراً أن يذهب إلى هيكل أورشليم ، يقدم جزءًا من الدراهم القليلة التي كانت بحوزته ، حتى يُحفظ من كلِ سوء خطيبته الغالية والوقورة جداً . فقد تاثرت مريم من إهتمامه المثحب ، لأنها كانت ترى كل شيء وهي في مصلاها . وتابعت الصلاة من اجلهِ ونالت نهاية عذابـة .
وعندما نام يوسف ،أمر الله رئيس الملائكة جبرائيل أن يكشف له السرَّ الذي قد تمَّ في مريم .
فتمَم الرسول السماوي مهمـَته كما جاء في القديس متى في الفصل الأول من إنجيليه : يايوسف بن داود، قال له ، لاتخف ، إنَ الحالة الموجودة بها خطيبتك هي من عمل الروح القدس ، وستسَمي إبنها يسوع لأنه سيخلص شعبهُ من خطاياهم . كل هذا حتى تتمَ نبؤة اشعيا القائل : إنَ عذراء تحبل وتلد ابناً وسيُسمى عمانوئيل اي الله معنا . وعندما استيقظ القديس يوسف ممتلئاً نورا وفرحاً ، سجد أمام الله وشكره بتواضع عميق لأنه اعطاهُ عروساً ،
تلك التي أختارها أن تكون أمـَاً له . ووبَخ نفسه بعدئذٍ بمرارة على قصده بأن يتركها قائلاً:
كيف أستطعت أن أفكر بأمر كهذا ، وكيف أنا الذي لست سوى تراباً ورماداً لم أخدم ، وأنا ساجد على قدمي ، تلك التي هي ملكة السماء والارض ؟
وبينما كان ينتظر وقت المثول أمامها فتح صرَة السفر وشهق بالبكاء وعمل في البيت بعض الاشياء التي كان قد تركها لخطيبته لأنه عزم من الآن وصاعدا أن يكون خادماً لها . وعندما ظنَ بانها أنتهت من صلاتها العادية فتح باب غرفتها وأرتمى على قديمها . ياأمَ الكلمة الأزلي بالحقيقة ، قال لها ،إني متأكد أنك على علم بكل فكرة راودتني لأن لاشيء يخفي على الأنوار المُنزَلـضة عليك من الله . سامحي جهلي والقصد الذي عزمت عليه والتسلط الذي مارسته نحوك بدلاً من أن أخدمك كأمّ لإلهي . وإني لن أنهض عن قدميك إلا بعد أن أنال عفوك وبركتك.
فسُرَت العذراء الكلية القداسة ، لأن السرَ العظيم قد كُشف لخطيبها الشريف ولكنَها حزنت لأنه لم يعد يريد ان يعاملها كما لو كانت أحط قدراً منه . فاسرعت وانهضته ثم سجدت هي نفسها على قدميه قائلة لهُ : يتوَجبعليّ أنا ياسيدي أن أطلب عفوك بسبب الغم الذي تحملتـَهُ بسببي .
لم يكن يعود الأمر اليَّ أن أُجنِبك إياه وأكشف لك المعجزة الإلهية التي حصلت فيَّ . صمتي لم يكن خطا تجاهك ولكنـَه وفاء للسر الإلهي . أرجوك بحق السيد الذي في أحشائي أن لاتغيـِر شيئاً من تصرفك معي . لأنه لم يرفعني إلى هذا الشرف الإلهي حتى أكون مخدومة ولكن حتى أصبح خادمة الجميع وخادمتك أنت بالأخص ، لأنه يجب عليّ أكون تحت ظل حمايتك . ـــإنك مباركة بين جميع النساء ، اجابها القديس يوسف ، فلتمجِد الأجيال كلها الربّ لأنه تمـمَّ فيك وعوده القديمة ولأنه إختارني أن أكون خادماً لك بالرغم من كوني آخر الناس .
فأعادت العذراء القديسة التعظمة مع أناشيد أخرى ثم وقع عليها أختطاف سام فيه من الأرض في كرة من نور شديد اللمعـان .
وعند هذا المشهد الغريب عليه إمتلأ القديس يوسف إعجاباً وسعادة لا مثيل لهما . وعرف بكثير من الوضوح كمال عذرية أميرة السماء في حَبّلها بالكلمة المتجسد . فرآه وعبده وقدَم ذاته لخدمتهُ بمقدار كبير من التواضع والحب . وأنعم عليه الطفل الإله عندئذٍ بلقب الأب الظاهر مع الهبات السماوية الموافقة لهذا الشرف الذي رفعه فوق سائر الرجال . وحتى يكون أكثر أجتهاداً بخدمة الأم الإلهية عرّفة أنه من أجلها وبواسطتها حصل على جميع هذه النِعم التي أنعم عليه بها . وكانت سعادته كبيرة جداً حتى أنه لم يعد يستطيع إحتمال ذلك بدون عون من الله .
إرشادات العذراء الكلية القداسة
ياأبنتي ، لاشيء يجب أن يمنع خدمة الله ، وعلينا دائماً أن نعمل حسب أنوار الإيمانن . ولكن كم من النفوس تتخلف عن هذا الواجب ! فصلي من أجلها كما كنت أعمل أنا . وإن لم تـُستـَحب صلواتك علنّاً سيكون ذلك بطريقة سرية وفي كل الأحوال ، سيكون لكِ الأستحقاق لأنك عملت لمجد الله الذي سيُكافئك بسخاء.
وبأية عناية عليك أيضاً أن تتوقي من عمى البشر المشؤوم . فهم لايهتمون للأخطار التي يتعرضون لها وسط التجارب التي يشنها عليهم الشياطين ؟ أنهم غارقون تماماً في الحياة الشهوانية حتى لايعودون يكترثون للجراح التي تـُثخن نفوسهم لأنها غير منظورة مثل الأرواح الجهنمية التي تـُسببها .
لايستطيع أي لسان أن يُعبر عن الحقد الشديد الذي يهِيجهم ضد الأشخاص المخلوقين على صورة الله .إنهم يودُون تمزيقهم بلمحة بصر ، لو لم تقيـِد الرحمة الإلهية ثورة غضبهم .
كيف يُمكن إذاً أن نتصوَر الجنون الإجرامي للذين يستسلمون طوعاً لهولاء الأعداء المُفترسين والمُعذبين بالغيظ طيلة الأبدية .
إنكِ ياأبنتي قد فهمتِ مُجمل المعركة الطويلة التي كابدتها ضدهم . ومنها عليك ان تستخلصي بعض قواعد السلوك حتى تستطيعين التغلب على هجماتهم . وا فضل طريقة لمحاربتهم هي إحتقارهم كاعداء غير قابلين المصالحة كونهم غنائم حقيرة لجهنم . وتصرفي معهم بترفع كونك إبنة الله ومُريهم بسلطة بأسم السيد .
إن النِعمًة التي لا تـُقهر تساعدك ، وماذا يستطيع أن يفعل معها التنين الجهنمي ؟ إنَ عجرفتهُ لكبيرة ولكن ضعفهُ لأكبر بكثير . إنهُ ليس سوى ذرة حقيرة تجاه القدرة الإلهية . ولكن بمأَ أنهُ يفوق جميع البشر الفانين بالحيلة والدهاء ، يجب عليهم أن يتجنبوا قلة الفطنة في التحاور معه. إنهُ يمتاز بنشر الظلمات والأظطراب وتزييف الأحكام وستر جمال الفضيلة وشناعة الخطيئة ، إلى حـدِ أنهم إن سمعوا له لايعودون يُميّزون الحقيقة من الكذب والحياة من الموت.
ضعي إذاً لنفسك قاعدة لاتـُخرق ، أم تميلي بإنتباهك عن جميع مايصوّر لك بتجاربه ، وان ترمي بعيداً إقتراحاته وكأنك لم تنتهي إليها . اهربي منه وهذه افضل طريقة للتغلب عليهِ .
حلـِقي عالياً على جناحي الحمامة واختبئي في قلب العَليّ وظلي هكذا بثبات وهدوء مُتحدة فيه .
إجتهدي ايضا في ان تمارسي الفضائل المُعاكسة للرذيلة المعروضة أمامك . واسألي بالأخص العون من الله باستحقاقات يسوع المسيح . واسرعي بعدئذٍ إلى حمايتي لأني أنا أمكَ ، وإلى حماية الملائكة والقديسين اصدقائكِ . وعندما يرى الشيطان هذا التصرف يفقد الأمل ويعترف بالغلبة ويقاسي عذابات لاتوصف . هذا الإعتبار يجب ان يشجعك وأن يهدىء من روعك ، وعندما يسمح الله أن تقتحمك التجارب العاصفة كما سمح بذلك معي ، فالعريس السماوي يمتحن عندئذٍ أمانة عروسه الحقيقية التي عليها أن تلتجىء إليه الآن أكثر من أي وقت .
لأنه في الآونة العسيرة يعرف جيداً أن يأمر الرياح والبحر أن يسترجعا مع النصر الهدوء المنشود .
ولكي لاتـُشوه هذه النتيجة المجيدة ، من المُهمَ مقاومة التجربة منذ البداية بقوة هادئة .لأن الشيطان إن رأي بعض الضطراب أو الشر أو الخداع ، يتضاعف جرأة وقوة ويصبح خطر السقوط محتماً .فأحترمي إذاً من أي إهمال .
كما يجب أن لاتكوني اقل حذراً عندما يستخدم عدوك الجهمني خلائق أخرى لمحاربتك . يستطيع أن يستخدم بطريقتين عندما يحملهم على حبِ مشوش أو على كرهِ غير عادل. عليك أن تنظري وتميّزي مثل شيطان ، مع ممارستك للمحبة ، أي شخص يودّ إبعادك عن الله بطريقة أم باخرى. أما بالمقابل فإن أبغضك احد وأضطهدك ، صلي لإجله وبادلي معاملته السيئة بالحلم وهدئيه بكلمات ناعمة منيرة ، ليس من أجل تبرئة نفسك ولكن منأجل خلاصهِ.
استريحي في الله الذي يوجِه كل نفس نحو غايتها بحكمة لاتقهر وحب لا يُحَدّ . ونتجنب عذاب تشويش الفكر غير المُجدي والخطر بأستسلامنا بهدوء كامل لعنايته الإلهية الأبوية للغاية والأكيدة حتى لو كنت غالبا غامضة تجاه عيون البشر الضعيفة . لايكون أبدا عبثاَ استسلامنا لمشيئته والألتجاء إليه هو وحدة الذي يستطيع كل شيء . كم من عناية فعّالة لايحيط بها مختاريه ! كل شيء تحت تصرفه يعود لمنفعتهم .
كان هذا ماحصل مع الصمت الذي حفظـُتهُ نحو خطيبي. أَلزمت نفسي على كتمان السر لأني كنت افضل على كل شيء مسرة الله الصالحة التي لم يكن عليَّ أن أكشف فضلها. تعلِمي مني أن
لاتـُبرّري نفسك مهما كنت بريئة ، ووكلي فقط أمر صيتك للسيد . وتعلمي أيضا على مثال القديس يوسف أن لا تحكمي بالشر على أحد ، وإن تكُن هناك اشياء مزعجة تشير إلى ذلك . عليك مثل أن تعلّقي حكمك وتفسّري كل شيء بطريقة جيدة أقلة إن لم يكن الخطأ صريحاً .
وأخيراً بعد جميع هذه الاشياء التي كُشفت ل عن متاعبه ، عليك أن تمجدي الحكمة الإلهية على هذا النظام العجيب ، الذي مارسته باستعمالها مع المُختارين حيناً التعزيات التي تجذبهم إليها ، واخرى المتاعب التي تزيد من إستحقاقاتهم . يجب أن لايعكر أي حدث في هذه الحياة سلام وهدوء نفسك إن الأضطراب هو حاجز تجاه زيارات وإيحاءات وملاطفات السيّد ، لأن عز ّته الإلهية لاتأتي أبداً في العواصف ، ولأن النفس ذاتها لاتستطيع أن تميِز شعاع وجوده في سماء ملـّبدة بالغيوم .
ولكي تصبحي أهلاً للأتصالات السماوية عليك أن تعملي توازناً بين قوى نفسك وقوى حواسك حتى ينتج عن ذلك تناغم لطيف ، شبيه بذلك التناغم الموجود بين أصوات كثيرة من الآلات الموسيقية . فبقدر مايكون هذا التلآؤم كاملاً ، بقدر ذلك ، يقول اقل تنافر مزعجاً . هذه هي حالة النفس ، بقدر ما تكون جميلة بقدر مايجب أن نجنـَبها عدم الكمال ونعيد إليها كل ترتيب في حال حصول أي تشويش.