مدينة الله السرية
الفصـــل الســــابـع
سنوات مريم الثلاث الأولــى
كان الفصل الثاني عشر من سفر اللاويين يفرض على الأمهات أن يتوجهنَ إلى هيكل اورشليم بعد سبعين يوماً من وضعهنّ طفلة فيُقدمنَ حملاً حولياً ويمامة أو فرخ حمام . والقديسة حنة لم تكُن مجبرة بالطبع أن تخضع لهذه القاعدة لأن طهارة إبنتها الخالية من كل شائبة كانت قد فاضت عليها ولم تعُد بحاجة إلى تطهير. وبالرغم من ذلك فقد خضعت لهذه الشريعة وكانت سعيدة بالأكثر أن تقدم للسيد الأبنة الإلهية التي منحها إياها والتي كانت تحملها هي ذاتها بين
ذراعيها محفوفة بجوقة كبيرة من الملائكة . فأستقبلها الكاهن الجليل الأكبر سمعان الذي شعر بفرح عظيم لدى رؤيتها وتسأل إن لم تكُن الام والأبنة من عائلة المسيح المنتظر آنذاك .
فتممت القديسة حنة تقدمتها بدموع وَرِعة وجددت نذرها بأن تكرس إبنتها إلى الهيكل حين بلوغها السن المناسبة. وقد سمعت صوتاً داخلياً يقول لها بأن تاتي بها عند بلوغها الثلاث سنوات.
وكان هذا الصوت صدى للطلب الذي وجهَّتهُ مريم لله لدى رؤيتها عظمة الهيكل وتمنَّت لو تسّنى لها أن تقبّل أرضه ولكنها أكتفت بأن تسجد فيه للسيد بإحترام عميق وحُب مظطرم لايمكن لأي خليقة أن تقوم بمثلها. وبعدئذ تلت هذه الصلاة في قلبها)) ياإلهي الجدير بكل مديح إني اباركك في هذا المكان المقدس وإن لم أكن إلا ذ رَة غبار حقيرة، ولكني مع ذلك من صنع يديك. إني امجدكَ لكيانك وحمايتك غير المتناهية.
واقدم الشكر لصلاحك السخي الذي أنعم علي بنعمة مشاهدة هذا الهيكل المقدس حيث كرّمكَ فيه أجدادي وحيث حنانك الرفيع صنع بهم الكثير من المعجزات. فتنازل ياسيدي وتقبّلني فيه في الوقت تحدده أنت حتى يتسنى لي أن أخدمك فيه .
وكعلاقة قـُبول ورضى عن هذه الصلاة الوضيعة افاض العّليُّ على الأم والأبنة نوراً سماوياً ملأ نفسيهما بجمالات جديدة فائقة الطبيعة. وترنم ملائكة حراس مريم مع الذين إنضموا إليهم بمدائح عذبة للمُفيض بكل هذهِ النِعَم ولكن لم يسمع هذه الموسيقى السماوية سوى ملِكـَتنا وأمها.
وبعد نهاية الإحتفال عادتا بفرح إلى الناصرة. وهناك كانت مريم تـُعامل كسائر أطفال سنَّها وكان طعمها عادياً ولكن بكمية قليلة. أما رُقادها فكان قصيراً ويجب حثـّها عليه.
كان منظرها عادة عذباً يوحي بالجاذبية ولكنه كان ايضا عظمة رفيعة تبعث على الإحترام.
وكانت تبكي غالبا وذلك شفقة على خطايا البشر طالبة مجيء مصلحهم الإلهي. لم ابداً شيء صبياني ولكنَّها كانت تتقبل بطيبة خاطر مداعبات والدتها وتـُخفِّف من البقية من أجل رصانة وجهها وحتى والدها الذي كانت تحبُهُ بعذوبة كان يري ذاته مُجبراً على هذا التحفظ إحتراماَ لها.
كان تأملها مستديما ولم يكُن يقطـَعُه شيء ،حتى الرقاد بإمكانهِ أن يهمل دون مساعدة الحواس
وقد تمتعت بهذه الميزة حتى مماتها بنوع ان محادثتها مع الله لم تتوقف البتة بل كانت تـُشجعها وتساعدها برؤى مختلفة(1) وكانت تتحدث أيضا مع الملائكة القائمين على حراستها عندما كانوا يظهرون لها بشكل منظور بجسد كأنه من ((الكرستال))حيّ يشع نورا ًكالأجسام الممجده بعد القيامة.
وكانوايضيفون إلى جانب الجمال الفائق مـَظهراً مَهيباً محبِّبَا جداً. كانت ملابسهم أنيقة للغاية كأنها من الذهب المنقوش المزيَّن بألطف الالوان، وعلى رؤوسهم أكاليل من الزهر وبأيديهم رياش مختلفة ترمز إلى فضائل وأستحقاقات مَلكَتهم .
وكانت تلمع على صدورهم حروف غريبة تعني: ((مريم أم الله)). ولكن بقيّ معناها مخفياً على العذراء لأنه كان يجب ان لايُكتشف لها هذا السر إلا أوان تحقيقه فقط.
وعندما كان يَظهر لها السبعون سرافيماَ كانت تراهم كما رآهم النبي اشعياء في رؤيا خيالية وصفها في الفصل السادس. كان لهم ستة اجنحة يسترون وجوههم بأثنين منها فيُعِبرون بذلك عن ضعف إدراكهم غير القادر على الولوج في عمق اسرار الألوهية المستعصبة على الإدراك.
وكان يستر اثنان آخران اقدامهم، وذلك تعبيراً على عمق إحترامهم لملكتهم، فيعرفون بفرح بسموها الفائق عليهم، واخيراً كان أثنان معلَّـَقان بصدرهم يساعدانهم على التحليق مُعِبرين عن إظطرام محبتهم المُلتهبة نحو خالقهم . وكانوا يكتشفون لمريم عن قلبهم الذي يعكس كما في مرأة روحية، أشعة الألوهية التي لم يكن دائما بأستطاعتها ان تراها بنفسها.
وكان يظهر لها الأثنا عشر الآخرون بشكل جسدي مثل مثل التسعمائة الآول ولكنهن كانوا يحملون أكاليل وسُعُفاً من النخل عديدة مُهيأة للمتعبدين لملكتهم. وكانوا يتحدثون معها بالأخص عن محبة الله الفائقة للبشر وكانت تستعين بهم لإسعاف الذين يطلبون شفاعتها. هولاء الملائكة لايزالون حتى اليوم يقومون بهذهِ المُهمَّة.
وأخيرا بالنسبة للثمانية عشر الآخرين من الملائكة الذين كانوا يُكملون الألف فقد كانوا يظهرون للعذراء القديسة بجمال عجيب وكانوا مُزيًّنين بشعائر عديدة ترمز للآلام وعلى صدورهم وبين ذراعَيهم صِلبان ذات جمال غريب. كان عليهم أن يقدِّموا هكذا لمريم آلام الفادي ويحملونها على حب للشفقة يفوق الوصف. ولقد استخدمت بعدئذ هولاء الملائكة كرسل تبعث بهم إلى ابنها الإلهي تستتعطفه من أجل النفوس . ومنذ اصبحت في السماء كانت ترسل أيضا الملائكة حرَّاسها للقيام بمهمات على الأرض دون أن يحرموا من التمتع برفقها بمجد عارض.
وبالرغم من أن مريم كانت تتكلم مع الملائكة بكلمات لفظية فقد صمتت مع البشر طيلة الثمانية عشر شهراً الأول من حياتها. وكان من العجب كيف استطاعت مريم أن تخفي هكذا قوتها وعلمها ونعمتها ومع ذلك فقد كانت تعبر عن عواطفها نحو ابيها وامها لا بالكلام ، بل بالتصرفات. فقد كانت تأخذ أحيانا بأيديهما وتـُقـَبِلها بمحبة واحترام وتحرك قلبيهما حتى يباركهما. وكانت تتصرف هكذا كل حياتها دون أن تعارضها بشيء أبداً.
وهكذا كان الروح القدس يرشدها بحيث أن جميع تصرفتها كانت كاملة. وتواتـُر الرؤى الروحانية كانت ترعى مواهبها وعندما كانت هذه الرؤى تتأ خر عليها كانت تستعين بذكرى الرؤيا الإلهية التي عقبت ولادتها لذا كان قلبها يُظطرم حباً حتى الموت لو لم يكن الله يحفظ
حياتها بشكل عجيب . وقد سمح مع ذلك أن تخور قواها تحت وطأة قوة حرارة هذه المحبة ، وسمح للملائكة بإسعافها كما هو مكتوب في الفصل الثاني من سفر الأناشيد . فكان هذا استشهاد سام يتجدد فيها مراراً عديدة ويُسبب لها آلاماً واستحقاقات لم تحصل للشهداء.
ولكن هذه المشقة كانت عذبة حتى إن الإنسان كان يتحملها يرغب في دوامها. ولذا كانت مريم
تقول لملائكتها: أيتها الشرارات من النار الإلهية التي تـُلهب قلبي والمُرسلة من إلهي ، أنتم الذين تتمعون بمشاهدة جماله السرمدي حدِثوني عنه ، ونبّهوني إن حصلت لي التعاسة وكدرته بشيء وقولوا لي ماذا يريد مني؟ أما الملائكة فكانوا يحدثونها عن العظائم الإلهية التي كانوا يعاينونها .
وهكذا كانت تقضي طفولتها بأحاديث مقدسة إما مع الملائكة وإما مع العَلي الذي تحولت إليه بكليتها . وبما أنهم كانوا يضاعفون دوماص رغبتها المُلتهبة لرؤية الألوهية كانت بواسطتهم ترتفع جسديا إلى السماء حيث كانت تتمتع برؤية الألوهية بطريقة واضحة تقريبا ، غير أنها سامية للغاية عل الدوام. وكانت تكتشف فيها اسراراً عظيمة وتنهَل منها بالأ خص معرفة الملائكة وطبيعتهم وصفوفهم ومراتبهم ودرجاتهم بالمجد.
وكانت هذه المواهب ، بعيدة عن كل تكبُّر ، تزيد من تواضع مريم ، وكانت تحسب نفسها آخر الخلائق غير مستحقة الغذاء التي كانت تتنتاوله والعناية التي تـُقدم إليها. ولذا كانت تصلي بعرفان حيّ ، من أجل الذين كانوا يقدِّمون لها هذه الأشياء . وبمَا أن صمتها كان سيتوقف في الشهر الثامن عشر وقبل أن تكلِم البشر حصلت على رؤية للألوهية وفيها تكلـَمت مع الله وقالت لعظمته :
((ياسيدي الفائق السمو ، الإله الذي لاتدركه الأفهام كيف تفيض بكل هذه النِعَم السامية على أحطّـّ وأحقر خلائقك ؟ كيف تتنازل عظمتك بهذا الصلاح الفائق نحو خادمتك العاجزة ان تردّ لكّ
شيئاً من هذا الجميل ؟ أيُّ شيء في َّ بإمكانه أن يعوِض بمَا لكَ عليّ ؟ أيُّ شيء فيَّ ولايخصك ؟ ولكنني أُسَّر على الأقل ياإلهي المحبوب لأن كل خير هو منك ، ومجدك هو أن تعطي الوجود للعدم وترفع أحطـَّ الاشياء فتنجلي بذلك عظمتك على أكمل وجه )).
فأكد لها السيد حبّه وبشرها بأن الوحيد سيتجسد قريباً حتى يتمجد على الدوام ويخلِص البشر ذوي الإرادة الصالحة . فاجابت الطفلة القديسة:
((بُورِكت ياسيدي المتعالي جداً لأنك ستعجل بمجيء ابنك فداء أولاد آدم. وأين كانت حياتي نافعة لهم بشيء ما، فاقدِمُها لك وأنا مستعدة أن أعطيها لأجلهم )) .
فطلبت منها الله أن تصلي مرات عديدة في اليوم من أجل تعجيل تجسد إبن الله وتبكي خطايا البشر . وقال لها ايضا أن عليها من الآن فصاعداً أن تستعمل جميع حواسها وتتحدث مع الخلائق البشرية. فاستجابت لأوامره بهذه القوال الوضعية )) سيدي، كيف تستطيع من ليست سوى غبار أن تجبرَكَ بصلواتها أن تتمِم قريباً سرّاً عظيماً كهذا ؟ أين شيء تستطيع أن تستحق منك مخلوقة لم تؤدِ بعد لكَ أيةً خدمة ؟ وبما أنكَ تريد مِني أن أفتح شفتاي لأتحدث مع سوال انتَ الذي هو كل صلاحي ورغبتي الوحيدة ، فأرجوك أن تــَنظر إلي ضعفِي والخطر الذي يتهددني لأنه من الضعف جداً عدم السقوط في الكلام.
إني مستعدة أن اصمت بكل طيبة خاطر طيلة حياتي إن كانت هذه رغبتك حتى لااتعرض لخطر السقوط في إهانتك . لو قـُدِر لي وسقطت في هفوة ما ، لسوف تتعذَ َر عليَّ الحياة بعد هذه المصيبة)).
أعجب السيد جداً بهذه الصلاة فوعد الطفلة السخية أن يساعدها بنوع أن تكون جميع كلماتها مقبولة لديه . وطلبت منه حينئذ بركة جديدة حتى يفتح شفيتها لتسترسل بالكلام .وأول كلمات تلفظت بها كانت طلب البركة من والديها. وكان في ذلك الوقت سعادة مزدوجة لهما بأن يسمعا صوتها ويشاهدا في الوقت نفسه خطواتها الأولى . فأخذتها القديسة حنة بين ذراعيها وقالت لها)) ياأبنتي وحبّي العذب فلتكن دوماً كلماتك وخطواتك من أجل خدمة ومجد الخالق .
ولكنها لم تكن تتكلم إلا قليلاً جداً وذلك لتجيب فقط على أحاديث والديها التي كانت تـُسر جدا بالتحدث معها عن الله وعن أسراره ، وبالأخص عن سِر التجسد. فكانت أجوبتها مُفعمة حكمة
وتواضعاً حتى إن القديسة حنة كانت تبكي لشدة تأثرها.
وكانت الطفلة الصغيرة ترغب جداً بأن تؤدّي بعض الخدمات ، أقلة في الاشياء الصغيرة والسهلة مثل تنظيف وكنس البيت ، ولكن والديها لم يكونا يريدان ذلك. وبينما كانت تجرِب أن
تقوم بشيء ما ، كان ملائكتها الحراس يساعدونها فيه.
لم يكن والداها ثريين كثيراً كان بمقدورهما أن يلبساها الملابس الجميلة مع الحِفاظ على تواضعها. طيلة المدة التي كانت صامتة فيها لم تكن تقاوم هذه الزخرفة ، ولكن منذ أن نطقت صارت تطلب من والدتها بكل إتضاع أن تلبسها ثوباً من القماش الخشن الفقير والبسيط ، ذات لون رمادي ويكون مستعملاً إن أمكن ذلك. فأستفادت القديسة حنة من هذه القدوة الصالحة واستجابت لطلبها ، وكانت تأُعزيها أن تكون مُطاعة في كل الأحوال .
ولذا كانت إبنتها مريم تستبق رغباتها ، وإن أرادت أن تعمل شيئاً من ذاتها فكانت تسألها السماح بذلك مع طلب بركتها وتقبيل يدها.
وكانت مريم تلجأ إلى الخلوة قدر إستطاعتها حتى تـَنعَم أكثر برؤية ومحادثة ملائكتها.
وكانت تسجد أيضا وهي تبكي خطايا البشر حتى في مثل هذا السِن المُبكرة ولم تكن تتوقف عن صنع التضحيات من أجلها بإمانة جسدها.
وعندما أنهت سنتيها الأوليّين إبتدأت تتدًّرب على صنع الخير نحو الفقراء وكانت تطلب من والدتها شيئاً تعطيه لهم كما تحرم نفسها من جزء من طعامها.
وكانت تقول في نفسها بينما تقدم لهم الصدقة(( يجب عليًّ أن أقدم لقريبي ماليس عنده ، بينما أملك أنا ما لا أستحقهُ)). وكانت تقبِل يدهم وحتى أرجلهم أو أثار اقدامهم إذا كانت لوحدها، ولم تكن تتأخر لتضيف على الصدقة المادية الصدقة الروحية بصلواتها .
وبالرغم من أنه كان لها موهبة العلم لكل الاشياء المخلوقة كانت تتلـّقن مع ذلك كل شيء على نحو مايحصل للاطفال وكأنها لاتعرف شيئاً . وكما الملائكة يعجبون كثيراً مِن مثل هذا التواضع.
وبقدر ماكانت القديسة حنة سعيدة بإكتشاف هذه الغرائب عند إبنتها بقدر ماكانت تتالم عندما ترى نفسها مُجبرة بعد وقت قليل على أن تنفصل عنها حتى تـُتـَمم نذرها . وكان هذا الألم شاقا جداً عليها حتى يكاد يفقدها الحياة لو لم يكن الرب سقويها. وكانت إبنتها أيضاً تهيئها بأقوال لطيفة حتى تقوي على هذا الفراق الأليم.
وقبل أن تـُنهي مريم سنواتها الثلاث بأيام قليلة أظهر لها الله في رؤيا تجريدية أنه قد قـَرُب
الوقت الذي عليها أن تكِرس له فيه ذاتها في الهيكل.
فقالت له وهي مُفعمة فرحاً وعرفاناً بالجميل )) يالله ، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، ياخيري البدي والأسمى بمَا أنه ليس بأستطاعتي أت امجدك بذلتي كما يليق، فإني أدعو جميع الملائكة حتى يشكروك بأسم خادمتك الحقيرة جداً لأن رافتك غير المتناهية تنازلت ونظرت إلى حقارة هذه الطفلة الأرضية. كيف يمكنني أن أستحق نِعمة قبولي في بيتك وخدمتك أنا التي لاأستحق أن لأكون قي احقر بيت مرذول في هذا العالم ؟ وإن كُنتَ تريد رغم ذلك أن تـُنعِم عليَّ بهذا الشرف فأرجوك أن توحي بهذا إلىذهـن والدي جتى يُتمّما مشيئتك)).
وبعد هذه الصلاة حصل كل من القديسين يواكيم وحنة على رؤيا أمرهما الله فيها بأن يفيا بنذرهما حالما تتمُّ طفلتهما سنتها الثالثة. فمن الطبيعي جداً أنه كان يشق عليهما كثيراً أن ينفصلا عن التي لم تكُن فقط تعزيتهما العذبة بل كانت مثالهما الأمثل .
وقد طُـُعِن قلباهما وبالأخص قلب القديسة حنة بخنجر هذه التضحية ولكنهما استمرا مع ذلك خاضعين بالكلية لمشيئة الرب وعيَّنا معاً يوم التقدمة .
إرشادات العذراء الكلية القديسة
ياأبنتي ، ماأن يضيء الله في نفس مِشعَل قوة الإدراك حتى يكشف لها الفرق الكائن بين الخير والشر ، ويحملها على الهرب من الرذيلة وممارسة الفضيلة. ولايتأخر بعد ئذ عن جذبها إليه بقوة الإيحاءات وبواسطة الملائكة والمُبشرين والمُعّرفين والرؤساء بالأمثلة الصالحة وأسرار الكنيسة بالمسرات والأحزان.
وتـَكمنُ في النفس مع الأسف بذور الخطيئة التي تحملها على الثورة وتعكر صفو الإدراك وتدفع بالإرادة إلى الإنغماس بالتلذذ الأثيم. ولايتأخر إبليس أن يخفي عليها السُم الموجود في هذه الملذات العابرة ويخدعها بالأوهام الماكرة.
ولكن الله لايتخلى إلى النهاية عن خليقته المسكينة، ولكن بالعكس فهو يضاعف مساعدات النِعَمة بالنسبة لتجَاوُبِـِها واستحقاقات إنتصارها ويرفعها إلى الأجواء السماوية.
ولايريد الله مع ذلك أن تعرف خليقته بالتأكيد إن كانت أهلاً للبعض أو للمحبة حتى يظل هذا الشك بمثابة مهماز يحثها على السعي وراء إقتفاء محبته والمحافظة عليها.
ولكن إن استسلم الإنسان لملذات الأرض الحقيرة فإنه يبتعد عن الله ويصمُ أذنه فلا يعود يسمع نداءاته الشفوقة ويصبح غير أهل لتحريضاته الرحيمة. وبقدر مايظلُ على هذه الحال بقدر ماتبقة سيطرة الأهواء وسيطرة ابليس شادة وثاقها عليه فتجعله غير قادر على العودة للخلاص .
فمن عظيم الأهمية إذاً ، أن نستفيد منذ بداية حلول نِعَم الله علينا ، وعلى هذا يتوقف خلاص أو هلاك النفوس. ولذا علينا أن نربّي الأطفال باكراً على الاستعدادات الحسنة وهكذا يظل عبير الفضائل مطبوعاً فيهم طيلة حياتهم.
كنت مضطرمة بمحبة كبيرة لوالدي وكانت بالأخص أحاديث وعناية أمي تأخذ بمجامع فؤادي ولكن رغم كل شيء عندما علمت بأن الله كان يريد مني أن انفصل عنهما ، نسيت نوعاً ما بينهما حتى أتبع السّيد الذي كان عزيزاً على قلبي أكثر منهما بكثير . وهكذا يا أبنتي أن تـُضحي بكل شيء نزولاً عند إرادة
الله المُطلقة.
__________________
(1) كان من الواجب أن تحصل هذه الرؤى لاتكون دون الملائكة الذين لم يكونوا يخضعون لضعف الرقاد.