مدينة الله السريه
القســم الثـــانـي
مـِن الأمومة الإلهية حَتـى الصّعـُود
الفصــــل الأول
تهـيـئة مريــــــم للتـَجَسد
وكانت مريم تـُتابع نموها بالقداسة في خلال الستة أشهر والسبعة عشر يومـاً التي مَرّت منذ زفافها حتى تجسد الكلمة. ومن أجل تتميم هذا العمـل العجيب بالطريقة اللائقة به أفاض الله على مريم نِعَماً كثيرة وغريبة في التسعة أيام السابقة لهذا السِر وكل ما نستطيع قولهُ ليس سوى خيال قاتم.
ففي اليوم الأول ، نهضت كعادتها عند مُنتصف الليل وسجدت بحضرة العَلي فقال لها الملائكة:
(( إنهضي ياعروس سيدنا الإلهي لأن عزّتـّهُ تـُناديكِ)) .فنهضت وأجابت : ((ياسيدي الإلهي ،
ماذا تريد أن تـَفعَل فيَّ ؟)) عندئذٍ شعرت بأنها إرتفعت وتطهّرّت ةأستنارت مُتهيئة بذلك للرؤيا الإلهية .
هذه الرؤيا كانت تجريدية فقط ولكن أكثر وضوحا واطول من السابقات لأن اميرتنا الإلهية كانت تصبح يوماً بعد يوم أكثر أهلية واستحقاقاً لذلك ، وهذا ماراح يحدث لها كل يوم خلال التسعة أيام في نفس الساعة ، ولكن مع تزايد تدريجي من الأنوار والحـُب.
أكتشفت العذراء الكلية القداسة هذه المـَرة كمالات في الله ، وأسرارً خيالية عن الطوباويين
أنفسهم وبألأخص تنازلهُ غير المتناهي الذي كان يتسرَّب خأرجاً عنه ، مع أنه لم يكُن بحاجة للخلائق ، لا من أجلهِ ولا من أجل مجدهِ . كشف لها جميع ما كان يلـزم لأول يوم من الخليقة.
رأت كل هذه الاشياء فيه بوضوح أكثر مما لو شاهدتها معروضة أمام ناظريها . شاهدت ُ الأرض والمطهر والجحيم والينبوس والسماء وجميع مايوجد في هذه الأمكنة بدقة كاملة كما كانت ترى النـور الذي كان عندئذٍ من حولها .
ولكن بما أن تواضعها كان يجب أن يُعادل شرفها الرفيع كأم لله ، نالت معرفة عميقة لكيانها الأرضي جعلها تتضع في أعماق العـَدم ، وبالرغم من براءتها تواضعت أكثر من جميع بني آدم،
فقال لها الله عندئذٍ: ((عندي رغبة كبيرة بأن أخلِص العالم. أستمري في أن تطلبي مني إتحاد إبن الله الوحيد بالطبيعة البشرية)).
((ياسيدي ، أجابت مريم ، ماالذي يعيق صلاحك من أن تـُتمِمَ هذا القصد ؟ وإن كنتُ أنا فأجعلني أموت حالاً . لأني أعترف بأن البشر عوض أن يستحقوا هذه النِعمة يصبحون غير أهل لها بسبب خطاياهم ولكن لايجدون موضوعاً لشفائهم إلا فيكَ وبرحمتكَ.
وإن لم أكن سوى دودة أرض صغيرة ارجو منكَ أن تستعجل هذا الشفاء من أجلَ مَجدكَ أنتَ)).
وبعد هذه الصلاة عادت لحالتها الطبيعية مُمتـئلة لأمر الله وتابعت الطلب من رافئتهُ تتميم الفداء وكانت ترفع له هذه الأبتهالات وهي ساجدة أمامهُ بشكل صليب ، لأن الروح القدس الذي يرشدنا قررَ لها هذا الوضع الذي كان الثالوث الأقدس يرتاح فيهِ.
وفي اليوم الثاني للخليقة ، بما أن العذراء الكلية القداسة كان عليها أن تفوق الخلائق ليس فقط بقداستها ولكن بِعلمها أيضا كونها أم الله ، وتكون الوسيطة بينها وبين الله . رأت أعمال اليوم الثاني للخليقة أي إنقسام المياه وتكَوُن الجلد الذي دُعي سماء ففاضت بأعماق عظمة الله واحكامهِ وتحركاتهِ. وأطلعها الله عندئذٍ بالطريقة المناسبة على صفة أخرى من صفاتهِ ، القدرة الكلية ،وأعطاها السيادة المُطلقة على الارض والبحار والعوامل والأجرَام السماوية وجميع الكائنات الموجودة . وهذه هي اسباب هذا الامتياز : أولُـُها بمَا أنَ العذراء الكلية القداسة هي مُنزهة عن كل خطأ لايمكنها إلا أن تكون مُميزة عن بقية أولاد آدم الخطأة الذي جَيَـش الله عليهم خلائقهِ لِيقتص منهم بسبب عصيانهم . وبمَا أنَّ الخالق المتأنس كان عليه أن يخضع لمريم لأنها أمه كان من العدل أيضاً أن تخضع لها ايضا جميع الخلائق، ولكنها لم تستعمل مُطلقاً سلطتها على هذه الخلائق حتى تتجنب صرامتها ، بل أمرتها بالعكس أن تمارس هذا العنف على شخصها فقط حتى تشابه إبنها الإلهي الذي كان يحتملها ولكنها كانت تستعمل هذه السلطة في بعض الظروف عندما كانت رحمة ومَجدهِ يتطلبان منها ذلك.
وفي اليوم الثالث ، عاودتها الرؤيا التجريدية مع تزايد النِعَم التي كانت تتعادل أكثر فأكثر مع شرفها بحيث أنَّ جمالها كان يتزايد بقدر ماكانت ريشة الحكمة الإلهية تلامسُها . وفي هذه اللحظة كُشِفَـَت لها جلياً اعمال اليوم الثالث للخليقة (1) مع كل خصائصها بحيث أن جميع علماء
الارض لم يعودوا سوى جهلاء ؟أمامها. وتقلبت مقدرة كاملة على جميع خصائصها وأمتيازا يُجنبِها أذَيتها إن لم تكُن هي راغبة بذلك. وبما أنها بالعكس كانت ترغب أن تتألم بواسطتها كان الله يمنع ذلك أحياناً حتى تستمتع بعذوبتها بصفاء . وفي هذا النهار أيضا شاركت الله محبته للبشر بحرارة كُبرى ، حتى إنها كانت تريد تتحمل لأجل خلاصهم مرّات غير مُتناهية جميع الأتعاب ، والمشاق، والآلام والإستشهادات والموت ، وجميع ماأحتمل الناس من عذابات في الماضي وماسيتحملون في المستقبل لم يكُن باستطاعته أن يشفي غليل شوقها للألم وكان من المستحيل عليها أن تستطيع أحتمال عنفهُ إن لم يَعضدها الله . ومنذ ذلك اليوم أصبحت مريم أمَ الرأفة والشفقة حقاً وأكثرا اهلية لتصبح أمُ مُخلص العالم.
وفي اليوم الرابع إرتفعت إلى الرؤيا التجريدية مع أنوار أكثر إشراقاً ، لأن قدرة الله لاحدود لها. فأعطاها الله معرفة شريعة النِعمة الجديدة التي سيعطيها مُخلص العالم ، والاسرار التي اسسها ، والاسعافات التي سيقدمها لجميع البشر بدون إستثناء لأنه كان يريد خلاص الجميع. فصلـَت بمحبة بطولية كي لا يهلك أحد من البشر ، ولكنها رأت انه بالرغم من كثرة الصلاح الإلهي سيهلك كثير من النفوس لأنها مَعمية القلب. وهذا المشهد سبّب لها نوعا جديداً من الاستشهاد دام طيلة حياتها .
واظهر لها الله عندئذٍ جميع أعمال اليوم الرابع للخليقة (2) : عددها – ترتيبها – شكلها مفاعيلها والنواميس التي تـُسيطر عليها وتخضعها على الإطلاق لسيطرتها. ثم كشف لها بعدئذٍ بقية الاسرار وكان أغلبها محفوظا إلى الدينونة العامة . لأنَّ العالم لم يكُن أهلاً لذلك في الوقت الحاضر. وخرجت من هذه الرؤيا محّولة إلى الله وراحت تطلب منه بحرارة متزايدة مجيء الكلمة المُتجسـد.
وفي اليوم الخامس أراها الله خبثَ الخطأة ةعدد الهَالكين والمُختارين والموانع التي تقيمها الخطايا حاجزا لمجيء الكلمة إلى الأرض.
فقالت مريم وهي مُظطرمة مُحبة : ((ياسيدي وإلهي ، ماهذا السّر الذي تكشفُهُ لي ؟ نَعَم ،
إن شرور البشر لاتـُحد ولكن هل بأستطاعتها أن تـُطفيء نار مَحَبتك أو تدخل في سباق معها ؟
لا يامُعلمي الإلهي ، إنها لاتستطيع أن توقف رأفتك . إني وإن كنتُ الخليقة الاقل نفعاً بين بني
.
البشر فأني اقدم لكَ باسمهم المواعيد التي وعدتهم بها على فم الانبياء بأنك ستعطيهم مُخلصاً بشخص الكلة المُتجسـد . إن البشر لايستاهلون إستحقاق هذه النِعمَةَ التي ليس لها أي مُسبب سوى رأفتك ومجدكَ)) . – ((بدون شك ، أردف السيد الرب ، ولكني أرى الناس لايستجيبون لإحساناتي إلا بجحود مُظلم ومساوىء كبيرة تسبب هلاكهم)) . عندئذٍ رأت مريم في الله جميع النفوس الماضية والحاضرة والمستقبلة ، وجميع أعمالها الصالحة أو القبيحة ، وظهرت لها مرتبتها ونهايتها وهذا الشعور كان قوياً جداً إلى حـدِ أنها كادت تموت لو لم يعضدها الله.
((لو تعلمين مَكر البشر ، قال لها ، لـَـعرفتِ عِندئذٍ كم ستفوقهم أعمال إبنك المتأنس وكم من الأرتياح تسبّبه لكم هذه الاعمال)) . ولكي ينعش بالأكثر رغباتها المُضطرمة بالمحبة وصلواتها المتواترة قال لها السيد : ((كيف يُمكنني أن أعمل صنيعاً كبيراً كهذا مع أناس غير مستحقين له؟ أتركيني أعاملهم حسبما يستحقون)) . ـــ(( لا ، اجابت مريم الشفوقة ـ لن أترككَ أبداً إلا حينما تستجيب لطلبي وتعطي بركتكَ كما أعطيتها لأبينا يعقوب )). عندئذٍ سألها الله ما لأسمها
كما فعل الملاك مع رئيس الكهنة بعد حربه الشهيرة . فأجابت : (( أنا أبنة آدم صنعة يديك من مادة حقيرة )) . فأجابها العَلي : ((مِنَ الآن فصاعداً سَتـُدعَينَ{ المُختارة} حتى تصبحي أُماً لأبن
الله الوحيد. ولكنها لم تسمع إلا كلمة { المُختارة} ووعدها الله بأن يرسل بأقرب وقت إلى العالم
الكلمة الأزلي. وهذا الوعد ملأها فرحاً لايُدرك ، ثم أعطاها السيد بركته وطشف لها أعمال اليوم الخامس للخليقة ك الأسماك والطيور ، مع طبائعها واجناسها وخصائصها وفوائدها وجعلها كلها تحت سيطرتها .
وفي اليوم السادس ، أعطاها الله معرفة كاملة لأعمال هذا اليوم للخليقة مع المقدرة والسلطة عليها. وكان جيداً أن تكون لها هذه المَعرفة حتى تشكر الخالق على إحساناته الكثيرة وعن جحود الكثيرين الذين لم يكونوا يعرفونهُ . فعرفت عندئذٍ جميع الحيوانات التي كانت خُلِقت كافة من أجل خدمة الجنس البشري ورأت في النهاية خلق الأنسان ، طبيعته وصفاته تناسق جسده ونفسهُ، والحالة السعيدة للعدل الاساسي ، جمال آدم وحواء الأبرياء ،تجربتهما وسقوطهما ، ومفاعيل خطيئتهما ، وغضب الأبالسة ضدهما وضد سلالتهما.
فَبكَت هذه الخطيئة الأولى ، وجميع الخطايا التي تحدَرت منها كما لو كانت هي نفسها المُخطئة،
وعزمت أن تحفظ بكل كمال الطاعة التي رفضها جدّانا للسيد ، وشكرته أخيراً على خلقهُ الجنس البشري . وحتى يعطي أتساعاً لهذه الرؤيا، وضع الله في قلبها إشمئزازاً جديداً وكبيراً للشيطان سببَ كثرة هذا الدمار.
وفي اليوم السابع ، رُفعَت بجسدها إلى السماء محمولة من الملائكة ، ولكنَ واحداً منهم حلَّ مكانها، فحدث لها كما في الأيام السابقة رؤيا تجريدية للألوهية ، وسمعت منها هذه الدعوة اللطيفة : (( تعالي ياحبيبتنا ، خذي جمالاً وزينةً لائقين بِحُبنا لكِ)). ولدى سماعها هذا الصوت، تلاشت بحضرة الله وقالت له: (( هاك ياسيدي هذا الغبار ، هذه الدويدة الصغيرة ، هذه الخادمة الحقيرة ؛ إنها مُستعدة للقيام بِكلِ مُستحبِ لديكَ )) ، وكان الملائكة مُعجَبين بها والثالوث الكُلي القداسة كان مُغتبطـاً هو أيضا.
فامر الله اثنين من السرافيم إلى عرشهِ أن يساعداها ، وأن يُلبساها ثياباً وجواهر ، حتى الوجه المنظور للإنعامات التي حصلت عليها كعروس وكملكة للكون ، وكمثل الجلال الفائق الطبيعة الذي كان يشعُ في نفسها . أنها كانت من قبل ، قد حصلت على هذه الزينة الرمزية بعد تقدمتها إلى الهيكل، ولكن هذه المَرَة كانت إحدى الأمتيازات التب تتجاوب مع إقتراب تتميم عمل التجسد الإلهي . فألبسها السرافيم ثوباً ذا بياض مُشرق ، رمزاً لطهارتها حتى أن شعاعاً واحداً منهُ كان يفوق لمعان جميع الكواكب . وإشارة إلى خوفها من إهانة الله، أحاطوا جسدها بزنار بًّراق كأنه كان مُولفاً من مختلف الحجارة الثمينة . ورأت نفسها مُزينة بشعر مربوط ببكلة غنية، وأكثر لمعانا من الذهب ، كانت ترمز إلى حرارة المَحبة ، التي سوف تخترق جميع المُتعالي ، والأساور كانت تـُشير إلى كرم أخلاقها والخواتم إلى مواهب الروح القدس.
وكانت تلبس عقداً مصنوعا من حجارة ذات إشراق عجيب ، يتدلى منه عدد سّري مُؤلف من ثلاثة أحجار أخرى ، أكثر جمالاً تـُشير إلى الفضائل الإلهية الثلاث ، وإلى الأقانيم الثلاثة الإلهية. وَوُضِعَ في إذنيها أقراطُ ُ من الذهب مُعَلقة بأقراط فضية ، حتى تـُهيأ لرسالة الملاك جبرائيل ويُلهِمَ لجوابها حكمة خاصة.
وقد رُصِعَ ثوبها بعدئذٍ بأعداد مُختلفة ، ذات ألوان متنوعة ، رمـزاً لفضائلها المُختلفة والسامية . وكان بعض منها يقول : مريم أمُ الله ، وغيرها مريم عذراء وأمُ ، ولكنَ معنى هذه
الكلمات لم يُكشف لها بينما كان الملائكة على علم بهٍ.
واخيراً حتى لاينقص شيء من جمالها ، أشرق وجهها بريق غريب ، أتاها من إقترابها ومشاركتها للكائن الأزلي ، لأنه كان يجب حتى تحملهُ في احشائها من أن تقبله مُسبقاً
بدرجة سامية من النِعمة. وقد فـتن جمالها قلب المَلك الأعظم.
وفي اليوم الثامن ، كانت المُتُلهِبة بالحب الإلهي ، العذراء الكلية القداسة، لاتفتـأ من الطلب إلى الله بحنان مُؤثِر مجيء المُخلص فسمعت عقلياَ نداء الله ، وشعرت للحال أنها حُملت جسدياً
إلى السماء من الملائكة الذين تركوا واحداً منهم مكانها كما حدث في اليوم السابق . وكانت الأرواح السماوية تصرخ لمنظر جمالها : كيف تصعد هكذا مُتألقة بهذا الجمال من أرض مليئة بالظلام ؟ حتى الله نفسه كان وكأنه يتأملها مُعجباً بها : (( فليَشهد الملائكة ، قال لها ، كما كنتُ على صواب عندما أردتك عروساً لي وملكة جميع الخلائق مُقابل إحتقارك لنفسك)) . وتهلل الملائكة عرضياً بفرح يفوق جميع الأفراح التي شعروا بها مُنذ أن وُجدوا.
وعرفوا بسعادة كبيرة مملكة مريم ، ورنَموا لها أناشيد المَجد ، وهم يمجِدون السيد أيضاً.
فقال لها الله عندئذٍ : (( ياعروسي ومختارتي ، بما أنك اصبحت هكذا مُستحبَة أمامي أطلبي مني جميع ماتريدين ، وانا أعطيه لكِ حتى ولو كان قسماً من مملكتي )) . فأتضعت جداً أميرتنا
الكبيرة ، ولكنها أجابت وهي مملوءة ثقة : (( بمَا أني ياسيدي نـُلت حظوة أمامك ، سأ قول لكَ كل مافي قلبي ولو كنت لست سوى تراب ورماد. لا أطلب لي قسماً من مملكتك ، ولكن أطلب ملوكتك بكامله من أجل الجنس البشري . لاتتأخر من أن ترسل له المُخلِص، إبنك الوحيد ، مشتهى جميع الأجيال)).
فاردف الله بعفوية لايمكن التعبير عنها: ((إنَّ صلاتك مستحبة لديَّ. سوف ينزل إبني الوحيد على الارض ويتـَحد بالطبيعة البشرية )). وبشكل شبيه بفجـر جميل جداً. ومُشرق بشمس العدل ، التي كانت قريبة منها ، اعادها الملائكة إلى مكانها وقضت باقي يومها تشكر الله بأسمها وبأسم جميع البشر.
واخيرا في اليوم التاسع بعد ان كان الله قد ناداها أجابته : (( هاأنذا ياسيدي ، إصنَع بي مايَحلو لكَ)) . فحُملت كما حدث لها من قِبل إلى السماء، فاجلسها الله إلى جانبهُ على كرسي بعد الذي كان محفوظا للكلمة المُتجسد.
وكشف لها عن اسرار سامية غير ممكن التعبير عنها. ورأت من جديد بالألوهية جميع الاشياء المخلوقة ، وحتى الاشياء المستقبلية ،فتأملتها كلها ليس بالتتابع كما كما كان يحدث سابقاً ولكن بجملتها وتلاؤمِها وترابطها ونهايتها وتعلُـُـقها بإرادة الله الذي يُدبرها . وينما كانت مذهولة بهذا المشهد قال لها العَلي : إني لم أخلق الاشياء المنظورة إلاَّ محبة بالبشر، لأني سأختار من بينهم مجموعة من المؤمنين يكونون أهلاً لمشاركتي بالمجد . ولمَّا كنت لم أصنع بعد ، إلا خليقة واحدة جديرة بمحبتي سأجعلها سيدة جميع هذه الغرائب . ولكني سأهبك مُلك جميع هذه الخيرات حتى تتصرفي بها كما تريدين ، وتتكرمي على جميع الذين سيطلبون شفاعتك. ولتكريسها ملكة على الخليقة ،وضع الثالوث القدس على رأسها إكليلاً مًرصَعاَ بأرقام براقة تعني{أم الله} فَهِمَ الملائكة وحدهم معنى هذه الكلمات وعرفوا من جديد أنَ مريم هي سيدتهم ، وكان من اللائق حقاً أن تتقبَل الإكرام من حاشيتها قبل مجد أمومتها الإلهية.
وزينها السيد أخيراً بمواهب جديدة تفوق عظمتـُها حدود عالمنا . وكانت هذه آخر لمسة ريشة لهذه الصورة التي أحياها الله ، حتى يُكوِن فيها وعليها الشكل الذي كان يجب أن يَلبسَهُ الكلمة الذي هو بجوهره صورة الآب الأزلي. وقد هُيِئت بهذه الطريقة ، حتى يجد فيها عند مجيئه كل الأئتلاف المُمكن الذي يجب أن يوجد بين الأب والأم.
إرشادات العذراء الكلية القداســــة
لايمكن لأحد أن يُدرك ياابنتي جميع ماصَنَعَهُ السيّد فيَّ من عظائم حتى يهيِئني لتجسد الكلمة وبالأخص مدة الأيام التسعة السابقة لهُ . كنتُ غارقة بِكليتي في هذا الأقيانوس من الكمالات ،
وأنعم عليَّ بمعرفة كبيرة للخلائق حتى إني دخلت في أعماق أعماقها بحيث أنها لم تـعد تـُمحى من عقلي أبداً . يجب عليك أن تستخدمي الخلائق نظيري كمثل سلّم فترتقي به إلى الله ، أو مرآة تعكس صورتهُ الإلهية فتذكرُك بمقدرته الإلهية ، وتـُضرمك بلهيب حبِهِ . أراد الله أن يكون الإنسان سيد الخلائق ، ويحسن إستعمالها ، ويخضع بالوقت نفسهُ لمشيئته العَلية . ولكنَّ جنون بني البشر المُجرم ، قلب هذا النِظام الجميل وأباد هذا الإنسجام الإلهي . هذا مايحصل عندما يصبح من أّ قيمَ ملكاَ على الخلائق الأرضية ، عبداَ ذليلاَ بخضوعه لسلطتهم الجائرة.
فعوضا من ان يرفعهم إلى الله خالقهم ، يسمح بأن يؤخذ بحبالهم الخداعة ويتركهم تحت سيطرة اهوائهم المُـخزية.
كم يصان مثل هذا الانسان بنكران جميل المُظلم ، والتوبيخ الرهيب يوم الدينونة العامة: سيصبح مُثقـَلاً بحيث أنه يزجُ بنفسه في أعماق الهلاك الأبدي ، مالم يكن حاضراً هناك رسـل العدل الإلهي فيزجُونه فيه.
إن نفسي، لمجرد هذه الفكرة ، تتكَبـد مضايق شديدة بإمكانها أن تسبب لي الموت ، إذ لم يقني الله منه ، وأريد منكِ ياأبنتي أن تـُشاركيني بعذابي هذا.
وأبكي جميع الذين يسيرون في طريق الهلاك ، هذا أفضل عمل مُقدس يفعلهُ أصدقاء أبي الإلهي الحقيقيين. عليهم أن لايفرحوا إلا بالدموع التي يذرفونها على خطاياهم وخطايا العالم المُصاب بعمى القلب. واضيفي إلى التنهـدات صلوات متواترة من أجل خلاص البشر ومجد أسم أبني . فلتكن هذه الصلوات مرفوعة بايمان حيّ ، وثقة غير مُتزعزعة ، بالرغم من تعاستك التي يجب أن تسبب مشاهدتك لها، التواضع دون اليأس. من أكبر إنتصارات الله المجيدة هي أن يكون مغلوباً هو نفسهُ من المتواضعين الذين يكونون متفانين حقاً في سبيلهِ.
ولاتنسي أيضا تطلبي بركته كلّ مرة تكونين بحضرتهُ.
إن التواضع الذي أنعَمَ عليَّ الله به في السادس من هذه التساعية كان عجيباَ. وبفضل هذه النِعمًة إتضعت لغاية التلاشي حتى آخذ نصيبي ليس من خطيئة آدم فحسب ولكن من طبيعته. فكم عليهم إذا أن يتضعوا ، الذين يزيدون على خطيئة أبيهم الأول ، عدداً لايُحصى من خطايا غيرها ، وتحت تأثيرها هذه العاطفة يجب أن يكونوا مُجتهدين بالتعويض عن الإهانة التي سببُوها لخالقهم ، أكثر من تجنّب القصاص الذي ينتظرهم. مجدُ الله ينتصر على كل شيء.
إرثي ياابنتي بمقدار من الخزي والألم ، كما لو كنتِ أنتِ المُقترفة الخطأ ، إرثي للإهانات التي جرحت عزته. وهكذا تستعدين أنت ايضاً لتقبّل الزينة التي يُهيئها لك ، شبيهة بالتي أّلبسها أنا.
إنه يوجد في كنوزه غير المتناهية عدد غير متناه من الزينات التي يوزعها على النفوس حسب إستحقاقاتها . ضاعفي حُبكِ له وأعلمي جيداً أن هذا الحُبَّ ينمو في أرض الكفر بالذات. وليُكن همّك أن تتخلي عن كل ما هو أرضي. ولكن لاتـَتـَنكري لِهبات الله ستار التواضع لأن هذا سيصبح نـُكراناً للجميل . ويجب أن لاتمزجي بين التواضع الحقيقي المُعترف بالجميل والجحود المتسِتر بالتواضع الكـاذب.
لذا علينا أن نحمد الله على الأشياء الكُبرى التي صنعها مع أحبائهِ. ويُسَرُ هو نفسه بجميع مايعملونه من صلاح أكثر مما يُسَرُ والدُ بأبنه الحبيب ، أو يفرح الفنان بعمله الكامل أو الملك بأنتصار هام. إذا ماكان الناس مستوعبين جيداً هذه الحقيقة، فأنـَهم لايمتنعون قط عن الخطيئة ولكنَهم ينصرفون للأعمال الأكثر بطولة حتى يَرضى الله عنهم.
إن نفسي التي يكون حبها عبودياً وذا مصلحة فإنها غير أهل أن تكون عروساً للعًلي .
فإنَـه يتوجب عليها أن لا تخدمهُ كمرتزقة ، ولكن لأجل ذاتهُ لأجل صلاحهُ اللامتناهي ومَسرتهُ الحسنة. ويجب عليها أيضاً أن تـُسَـرَ لكونها تخصُ إلهاً بهذا الغنى مُتحرراً ، خلق من أجل كل فرد من أولاده خيرات كثيرة ومُختلفة. ولكن بالأحرى يحسن بهذه النفس أن تكون عارفة للجميل كما لو كان صَنعَ هذه الخيرات لها وحـدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حركة النبات والعشب والأشجــار.
(2) الشمس و القمر والنجـوم.