مدينة الله السريه
القسم الثاني
الفصــــــل الثالــــــــث
زيــــارة العـذراء
في إحدى الرؤيا العقلية التابعة للتجسد ، أمر الله العذراء الكلية القداسة أ ن تذهب لزيارة أليصابات حتى تـُقدس إبنها الذي سيكون سابق الكلمة المثتجسد . إنك تعلم ياسيدي المَحبوب للغاية ، أجابت مريم ، أن قلبي مُستعد أن يُتمِم جميع ماتأمر به خادمتك الوضيعة، إسمح ل يمع ذلك أن أطلب موافقة خطيبي على هذا السفر . وتقبّـل أيضا مع رغبتي بأن أتألم مِن أجلك، أن أقدم لك التضحية يتركي عزلتي المَحبوبة.
وبعدئذٍ نادت ملائكتها الألف الذي ظهروا لها بالشكل الجسدي ، ورجتهم بتواضع أن يكونوا معها في هذا السفر وكان من عادتها ان تطلب رأيهم بالرغم من كونها أسمى منهم معرفة وقداسة. وطلبت أيضاً موافقة خطيبها قائلة له : إن الله أعلمني أن قريبتي إليصابات حصلت على الأبن الذي كانت ترغبهُ ،ومن اللائق أن أذهب واهنؤها على هذه النِعمَة إذا ماسمحتَ لي بذلك . فاجابها القديس يوسف : ان لي ملء الثقة بفضيلتكِ ، واعرف أنكِ لاتقومين بأي عملِ إلا من أجل مَجدَ العـَليّ ، كماسيكون هذا السفر . وسأرافقك لأعتني بكِ فحددّي أنتِ يوم الذهاب ، وكان هذا اليوم الرابع بعد التجسد فحضَر القديسان مريم ويوسف بعض حوائج السفر وأ عارهما أحد الجيران حماراً ، وماأن خرجا من البيت حتى خـرَت معلمة البشرية الكلية السمو على ركبتها أما يوسف وطلبت بركتهُ . بوما أنهُ رفض ذلك تواضعاً منهُ لآنه هو أيضاً كان له الكثير من التواضع تغلبّت عليه بإلحاح.
ومنذ الخطوات الأولى رَفَعَت عيناها إلى السماء وقلبَها إلى الله حتى تكرِس كل شيء لرغبتهُ الإلهية الصالحة. وطاعة للقديس يوسف كانت تستخدم الدابة الصغير وتنزل أحيانا ليستفيد منها بدورهُ ، خطيبها الوقور ، تلبية لطلبها.
ولكنه لم يرد ابداً أن يقبل عرضها وسمح لها أن تسير معه على الأقدام. وكان أغلب الاحيان يبقى صامتاً . أما ملائكة حراس مريم فكانوا يساعدونها في كل شيء ، وبالرغم من أنهم باشكال بشرية كانت مريم تراهم وحدها ، وتتكلـَم معهم وينشدون بتناوب عظائم الألوهية والخلق والتجسد نوع أن قلب أميرتنا كان يَضطرم بالحب الإلهي ، اكثر فآكثر.
وكان القديس يوسف يقاطع أحياناً تأملات مريم الحارة حتى يسأل خطيبته الوقور إذا لم تكن تعبة ، إن كان بإمكانه أن يعطيها بعض الإسعاف لأن الطريق كان وعراً . وينبما كان يتحدَث معها بالأمور السماوية كان يشعر بتزايد الأنوار الداخلية والحُب الإلهي الذي كان ماخوذاً به . وكم كان يودّ أن يسألها سبب ذلك ولكنَّه كان يلزم الصمت كتماناً للأمر . وكانت مريم تدرك أفكاره ، ولكن تظـنُ نفسها مُجبرة على تترك لله أمر كشف هذا السّر لأنه لم يقل لها أن تكشفه هي نفسها . وكانت ترى جيدًا الأرتباك المُكدّر الذي كان سببهُ هذا السر ، وتستلم لأمر العناية الإلهيــة .
لم يكُن المسافرون القديسون يمارسون الفضائل التي كان الله موضوعها فقط ، بل كانوا يصنعون الرحمة مع القريب . لكنهم لم يجدوا عند الجميع الاستعدادات نفسها . فكان البعض يرفضونهم بجفاء ، والآخرون يتقبلونهم بفرح. ولكنّ أمَّ الرأفة كانت مُحبة للجميع .
ولمّا كان الظرف يسمح لها كانت تساعد الفقراء وتـُعَزِي وتشفي المرضى ومن بينهم فتاة ، وزيادة على شفائها الجسدي شفت نفسها وحفظت هذه لها الجميل طيلى حياتها.
وصل مريم ويوسف إلى اليهودية في اليوم الرابع ،وهي مدينة صغيرة على بـُعد سبعة وعشرين فرسخاً من الناصرة ونحو فرسخين من أورشليم ، في هذا القسم من الجبل حيث تفجرَ سيل ( سوراك) (1) . أستعجل يوسف قليلاً حتى يحمل النبا للعائلة السعيدة التي كانوا يقصدونها بالزيارة .
وكانت القديسة أليصابات تنتظر ذلك لأنها علمت برؤيا سَفَر نسيبتها. فاسرعت للحال لملاقاتها
وسلـَمت اولاً عليها مريم بتواضع كما في كل مناسبة قائلة لها: إن الربَ مَعَكِ ياأبنتي عمي
العزيزة. فاجابت أليصابات : إنَ الرب نفسه سيجزيكِ عّني خيراً ، لأنكِ تكبدّت مشاق السفر
حتى تعطيني هذه التـَعزية . وبعد هذا السلام صعدتا معاً إلى بيت زكريا وانفردا معاً . فسلمت من جديد أمُ النِعمَة الإلهية على نسيبتها قائلة : فليحفظك الربُ ياأبنة عمي العزيزة ولِتعطكِ أنواره الإلهية نِعمَة الحياة .
عند هذه الكلمات تخلـّص القديس يوحنا المعذان من الخطيئة الاصلية ، وتقبّل نور المَعرفة ، وقد أمتلأ من الروح القدس ومارس كل الفضائل الملائمة لحالته هذه.
فاخذ ينمو بالقداسة وسجد على ركبتيهِ ليَعبد المُخلص الإلهي الذي رآهُ . وأمتلأت أليصابات أيضا من الروح القدس ، ورأت مريم في جلال أمِ الله ، وشاهدت أيضا كما في مرآة شفافة، الكلمة المُتأنس ورأت أخيراً كيف تقدس أبنـُها . وصرخت مُتهللة عجباً وفرحاً كما روى القديس لوقا : {مباركة أنتِ في النساء ومُبارك ثمر بطنك. فالطوبى لك لأنك آمنت لأنه قد تـمَ جميع ماقاله الرب لك } . فأجابت سيدة الحكمة والتواضع بالنشيد العجيب والمعروف جــداً :
ـ {تـُعَظـّم نفسي الرّب ، وتبتهـج روحي بالله مـُخلِصي
ـ لأنهُ نظر إلى ضعة آمته ، فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال
ـ لأن القدير صنع بي العَظائم ، وأسمهُ قدوس
ورحمته إلى جيل وجيل للذين يتقونهُ
ـ صنع عزاً بساعدهُ ، وشتـّت المُتكبرين بافكار قلوبهم
ـ حطّ ّ المُقتدرين عن عروشهم ، ورفع المتواضعين . أشبع الجياع خيـراً ،
والاغنياء أرسلهم فارغين
ـ عَضـد إسرائيل فتاة ، ليذكر كما كلـّم ابائنا
رحمتهِ لأبراهيم ونسله إلى الأبد }.
وفي نهاية هذا الحديث السرِي والمُقدس وضعت أليصابات نفسها وعائلتها وبينها تحت تصرف ملكة السماء ، وقدمَت لأستعمالها الشخصي غرفة تكون بمثابة مصلـّى بعيدٍ عن الضجـّة.
فقبلت بها الأميرة السماوية ، ومنذ هذه اللحظة لم يعد احد يدخلها سوى نسيبتها التي كانت تريد مساعدتها ، مُـعتبرة نفسها كخادمة لها قالت إنَ هذا هو أحد الأسباب الأساسية لزيارتها.
ثم قدمت نفسها لزكريا الذي أصبح أبكماً ،وطلبت منه البركة لكونه كاهن العَلي ، وصلـّت من أجلهُ بشفقة ملؤها حنان . أمَا أليصابات التي كانت تعلم عظمة يوسف فقد عاملتهُ بكثير من الوقار وبعد ثلاثة أيام طلب من عروسهُ الإلهية السماح برجوعه إلى الناصرة واعداً إياها بأن يعود لِيصطحبها في عودتها عند اول إشارة منـها.
وعندما اصبحت وحيدة في مُصلاّها سجدت كعادتها امام العَلي ، ورَجته أن يوجّهها في هذه الزيارة بنوع أن تتمِمَ دوما جميع مايروق لِعزته الإلهية.
وبعد جواب السيد الآب المُشجع لها ، نظمت برنامج عملها . فكانت تنهض من نومها كما في الناصرة عند منتصف الليل حتى تتفرغ طويلاً لتأمل الأسرار الإلهية ، وكانت تحصل لهذه الممارسة على إنعامات إلهية جديدة من الله وتتمتع أحياناً بالرؤيا التجريدية ، وأيضاً برؤية الكلمة المتجسد ، كما أنها كانت تشاهد نموه الجسدي . وهي أيضا تنمو بالحب الإلهي ، وكان يلزمها مساعدة خاصة حتى لاتموت بهذا الحب.
ومع ذلك لم تكن لتـُهمل شيئاً مما يتعلق بخدمة وتعزية نسيبتها، ولكن بدون أن تتحدَى مايطلبهُ
منها فعل الرحمة ،لأنها كانت عل عجلة حتى تعود لخلوتها العزيزة عليها ، وكانت تعمل بعض الأعمال اليدوية وهي تـُصلي صلواتها العادية.
كانت النسيبتان القديستان مُمتلئتين من المُبادرة لخدمة إحداهما الأخرى وكان يحصل غالباً بينهما إعتراضات بنَاءة ، وتبادر مريم بالقول عليّ انا أن أقوم بخدمتك لأنك أنتِ أكبر مني سنـاً ـ ولكن لا ، تجيب أليصابات يجب بالأحرى عليّ أنا أخدمك لأنك ِ تحملين إلهي. ـ بدون شك ، أردفت مريم ،ولكن أبني الإلهي اتى ليُخدم ويتألم ويُعلِم الناس الأنسحاق والتواضع ، فكيف إذا أقبل أن أكون مخدومة أنا التي ليست سوى دودة أرض صغيرة.
غـُلبت اليصابات امام مريم وقبلت أن توجِه لها الأوامر ، ولكن طاعة لها وبشكل رجاء ولفائدة الأم الإلهية. وبما أنها كانت تـَنعم برفقتها استحقت نعمة رؤيتها أحياناً بأختطاف ، مرفوعة عن الارض وجهها يُشـّع جمالاً حتى لن تعود تستطيع تحمُل بهائهِ ،فكانت تسجد عندئذٍ على قدميها وتعبد الكلمة المُتجسد .
وكانت العذراء القديسة تتحدث أيضاً مع ملائكته . وتكلمهم عن أسرار التجسد والفداء ، بكثير من المعرفة والتواضع والحب مما يجعلهم مدهوشين لذلك . يارسل العَلي وأشعة ألوهيته ، كانت تقول لهم ، ساعدوا هذه الدويدة الحقيرة ، التي هي أنا ، حتى أستطيع أن أحمد الله على كثرة صلاحهُ . ولكن لماذا يجب أن يُحكم على ابني بالموت كما تنبأت الكتب المقدسة ؟
لماذا أستطيع أن أتحمَل أنا الآلام عوضاً عنه ؟ كيف يكون بأستطاعتي أن أجعل الآب الأزلي يوجِه نحوي شدة عدله حتى يجنِبها للبريء الإلهي ؟ هذه الأحاديث كانت تـُضرم في قلبها شـُهُب المحبة المتزايدة.
وكانت القديسة أليصابات تحدثها أحياناً عن سعادتها قائلة لها : كم انت سعيدة لأنك تحملين هذا الكنز الثمين ! فلتغبِطكِ الشعوب مثلما أفعل أنا ! عندما تحملين بين ذراعيك شمس العدل ، أذكري خادمتك هذه . وكانت الاميرة السماوية تعطيها قدوة ليس بأقوالها ولكن أيضاً بخضوعها وتواضعها . وكانت لاتكتفي فقط بخدمتها ، ولكن كانت تخدم أيضاً جارياتها ، تبيض الغسيل وتكنس الأرض معهنَ . وكان كِبـَرُ عواطفها يشرف أحقر اعمالها . أما كان يجب ان يخزي هذا التواضع الكبير كبرياءنا ؟
ولكن بالأخص كانت العذراء الكلية القداسة لاتترك أي مناسبة تمرّدون أن تمارس غيرتها بتمجيد الله بواسطة تقديس النفوس . وهاهي بعض الأمثلة :
كان في بيت زكريا خادة تـُزعج أسيادها بطبعها وغضبها وشتائمها . من سنِها الرابعة عشر كان كثير من الشياطين يدفعونها إلى الرذيلة ولايتركونها مرتاحة إلا حين تكون بحضرة أمِ الله.
فشعرت المسكينة بذلك ومن ذلك الوقت أصبحت تفتش عن رفقتها . وراحت مريم أمُ الرحمة التي سبرت حالة ضميرها ، تـُصلـّي من أجلها وتأمر الرواح التي كانت تعذبها أن تتخلى عنها ، وبعدئذٍ علـَمتها وأعادت لها إيمانها إيمانها بنوع انها حفظتها صالحة حتى الممات .
وكان أيضاً في الجوار أمراة لم تكن أقل سؤًا من الجارية . وعندما صارت سمعت الناس يتكلمون عن الفتاة غريبة ذات قداسة عجيبة جربَت ان تحظى برؤيتها . وعندما صارت في حضرتها شعرت أنها تغيَرت بكليتها .
وخرق قلبَها ألم حاد بسبب خطاياها وزرفت الدمع مدراراً ، وشعرت بأنها تحررَت من عبودتها الحسية . وأنسحبت وهي مُتجددة تماماً ، وبما أن كان لها رغبة برؤية تلك التي تحت تاثيرها غـُيِرت كلياّ ، إستقبلتها ملكة الحنان بمحبة والديه وأدلت عليها بنصائح ثـَبتها في الفضيلة.
وعملت سرّا عدة ارتدادات مشابهة لأنها عندما كانت ترى أحداً في الخطيئة ، كانت تـُصلي من أجل تبريره وكانت تنال ذلك عادة . وإذا ما تصلبت بالعكس هذه النفس بالشر كانت تبكي بكثير
من الألم على ضياع صورة الله هذه. ولكن كم من الفرح كانت تسبب لها رؤية النفوس البارة وبكم من الحرارة كانت تطلب إلى الله الثبات فيه ! وقد استفاد بالأخص بيت زكريا من غيرتها وتقدس بكليته . فالذين كانوا من قبل قديسين تكلموا بالقداسة والذين لم يكونوا حصلوا عليها.
والجميع كانوا مملوئين وقاراً وحباً لها ويعترفون بها كأم فهي ملجأوهم ومعزيتهم.
كانت توحي إليهم رؤيتها فقط مفاعيل الإحسان ، وبما أنها كانت تـَعلم باسرار القلوب كانت تعطيها الدواء المناسب ولكن من غير أن تتلفظ بكلام كثير .
والقديسة إليصابات كانت مُتعلقة بها بصورة خاصة ، وقد مرَ شهران على مجيئها إليها ، وفكرة ذهابها كانت تجعلها تفيض بالدموع . قالت لها يوماً : أنتِ هيكل الله الحي . وابارك السيد الذي ارسلك إلى هنا وأرجوك أن تبقي هنا رغم حقارتي وخطاياي . أحضري خطيبك القديس وتعالا إليّ ، وكونا أنتما الإثنان أسياد هذا البيت. ــ اشكر رغبتك هذه ، أجابت مريم الكلية للطاقة ، ولكني مُلتزمة أكثر من اي شخص آخر أن أنقاد حسب رغبة الله الصالحة ، أنا التي إنتشلها من التراب بصلاح غير مُتناهِ.
ولذا يتوجّب عليَّ أن استشيرهُ بالأمر . ولكني لااستطيع أن أتخذ قراراً كهذا دون موافقة عروسي الذي تتوجب عليَّ إطاعتهُ . ــ فاجابت القديسة اليصابات : أني أخضع لهذه الاسباب ولكن على الأقل لاتتركيني قبل أن يولد طفلي حتى يحصل على بركتكِ ويستريح بين ذراعيك. ــ
فلنسأل معاً السيد ، أردفت مريم ، ماهي إرادتهُ . وأنسحبت الأُمَان إلى المَصلى حتى يَصلِيان للسيد. فحصل لأمريتنا السماوية إنخطاف ، قال لها الله فبه أن تبقى عند اليصابات إلى بعد ختانة ولدها وكشف لها رسالته ، وأن ولادته ستكون بعد ثمانية ايام. فحصلت أليصابات على مضمون هذا الاتصال مع كثير من عرفان الجميل يوازي فرحها بذلك. وكُشف ايضاً للقديس يوحنا المعمدان عن قرب ولادتهُ في هذا العالم. وبما أنهُ كان يتمتع بكامل قواهُ العقلية، وكانت له موهبة المعرفة الموحاة ، كان يعرف مهالك الحياة حيث يهلك كثير من النفوس، وكان يخاف أن يتعرض لأخطارها. ولكنه قال : إن كنت أنتَ تريد ذلك ياإلهي فلتكُن مشيئتك ، لأن تتميم هذه المشيئة هو أفضل مايكون.
وما أن وُلد حتى أعلمت القديسة اليصابات العذراء الكلية القداسة بذلك فأرسلت لها القـُمط التي جهزّتها لأجل سابق إبنها . وبعد ذلك بقليل وبأمر من السيد حضرت مريم بذاتها لتهنىء الأم السعيدة وتأخذ بين ذراعيها الطفل القديس . وبطلب من أليصابات قدمتهُ الآب الأزلي .
فتقبّلتهُ العزة الإلهية برضى كمقدمة للكلمة المُتجسد. وتعرف الطفل المثختار وبانوار الروح القدس ألى أميرتهُ الإلهية وأظهر لها إحترامهُ ظاهريا بإحناء الرأس وسجد للمخلص الذي سيبشِر به وهو بعد في حشاها البتولي .
وأظهر ايضا إعترافه الفَرح بجميلها بحركات يديهِ وكان يظهر أنهُ لايريد أن ينفصل عنها. وإرضاءً له راحت تلاطفهُ مع كثير من الجلال والتنز ُه حتى أنها لم تقبِله ابداً ، ولم توقف نظرها على وجههُ ، بقدر ماكانت فطنة ومُتضعة. ولم تنظر إلا لقداسة نفسهُ . وتمَ ختانهُ كما روى ذلك إنجيل القديس لوقا ونزولاً عند إلحاح اليصابات حضرت الحفلة العذراء الكلية النقاوة بعد أن سألت الله أن لايعطيها أي أنعام يلفت الأنتباه .
وبالفعل لم يلاحظ أحد ، ماعدانسيبتها القديسة ، وجهها المُشرق الذي كان يحمل شعاعاً من الألوهية التي كانت قريبة منها جداً . وبصلاة مريم أيضا عاد الكلاام إلى زكريا بعد أن كتب الأسم الذي كان يجب أن يُعطى لأبنه. وأول كلمات نطق بها كان إحتفاله كنبي بأسرار الفداء.
وبعد هذا الحدث لم يتأخر القديس يوسف الذي كان أعلم بالأمر عن الحضور حتى يُعيد إلى
الناصرة عروسهُ العَظيمة . فاستقبلتهُ بإشارات فرح تحمل كثيراً من الفطنة والتواضع وسالتهُ،
وهي ساجدة على ركبتيها ،بركَتهُ وأعتذرت عن غيابها عنه طيلة ثلاثة اشهر ، بالرغم من أنه كان قد أعطاها موافقته على ذلك. فأجابها القديس أنَ وجودها الآن أنساه المتاعب التي تحمَلها بسبب غيابها عنه وحدَد معها بعد ئذٍ يوم الرحيل.
وقبل وصوله قالت القديسة أليصابات للعذراء الكلية القداسة: ياأمَّ خالقي بمّا أني سأحرم من رفقتكِ أرجو منكِ أن تتركي لي إرشادات تستطيع بغيابك أن توجِه كل أعمالي الى مافيه رغبة العَليّ الصالحة. تنازلي وأعطي خادمتك بعض أشعة من النور المُتألق فيكِ . فَسُرَت ملكة القداسة من هذا الطلب المُقدس وأعطت نسيبتها نصائح عديدة هذه أهمها : (إرفعي نفسكش دون أنقطاع نحو الاشياء السماوية وأجعلي دوماً نـُصب عينيك مشهد الإلوهية.
وتذكري صنائعها معك وعوِضي بعرفان جميل حيّ عن الجحود المُظلم من كثير من البشر. إنزعي من قلبكِ كل الرباطات البشرية حت تستطيعي أن تخدمي الله بدون أي عائق وتذهبي بفرح عندما يطلبك إليهِ.
ليّكُن في نفسكِ نحو زوجكِ كلَّ الأحترام المتوجِب له . وقدِمي دوماً أبنكِ العجيب لخالقهِ. أحبّيه في الله ومن أجل الله ، لأنه سيصبح نبياً كبيراً . وإن أبني الذي أختاره كسابق له ،سيحفظهُ ويجعلهُ شهيراً في العالم. أعملي حتى يكون اسم السيد الربِرمُكَرماً على الدوام في عائلتكِ.
وأجتهدي في تعزية الفقراء ، ووزعي عليهم خيراتك الزمنية بنفس السخاء الذي تصرف به العَلي معكش. كوني لطيفة وديعة هادئة ساكنة وصبورة جداً مع الخلائق ، الذين سيكونون الأداة لأمتحاناتكِ وسبب إنتصارك. وأخيراً إشكري الله على الأسرار العظيمة التي كشفها لك ، ولا تكفي أبدا من أن تطلبي إليه خلاص النفوس ).
وأخيراً حانت الساعة وطلبت أميرتنا السماح بالذهاب من زكريا ، مُلتمسة بركتهُ ككاهن للرب.
فأستأذن منها ورجاها أن تعطيهِ هي البركة بنفسها ولكن،َه رضوخا للجاجتها أستعمل مقاطع عدة من الكُتب المُقدسة كمثل هذهِ (فلتخدمك الشعوب لأنك انت تابوت العَلي. من يكرّمك يكون مباركاً ومن لايفعل يكون ملعوناً )). وطلبت شفاعة صلواتها له ولعائلته ولكن ليس بدون أن يذرف كثيرا من الدموع . ثم ودّعت مريم نسيبتها التي كانت أيضا مُتاثرة أكبر من زوحها بتنهداتها وكان شهيقها يُعبر عن ألم الفراق. لاتحزني هكذا من أجل فراقي ، قالت مريم الجزيلة السمّو ، ودائماً متمالكة نفسها .
إن المسافة لاتفصل بيننا وستظل دوماً مُتحدين بالله . وعما قريب سنجتمع في أورشليم السماوية .وأجبرتها بعدئذٍ أن تعطيها بركتها وأجبرت بدورها أن تعطي البركة لنسيبتها. واحترست اخيراً بان لاتنسى الطفل يوحنا المعمدان. وعندما اصبح بين ذراعيها تمكن من ان يقول لها بصوت مُنخفض للغاية وبموهبة عجيبة : أنتِ التي هي أمّ الله كوني أيضاً محامية عن خادمكِ الصغير . تنازلي وصلـّي من أجله وباركيه .وقبلَ اليد باركتهُ وعبد الكلمة المُتجسد .
وأستاذن ايضا القديس يوسف بالذهاب من هذه العائلة التي أظهرت له كثيراً من الإجلال ، منذ أن عرفت إمتيازاتهِ. وبعدئذٍ أخذ الزوجان القديسان طريقهما إلى الناصرة.
إرشادات العذراء الكلية القـداسـة
ياأبنتي ، سعيدة هي النفس التي يكشف الله لها عن إرادته ولكًنها سعيدة بالاكثر تلك التي تعمل بهذهِ الإرادة ! فتذرَعي أنتِ بالتواضع والصبر كجانحين تحلقين بها بسرعة أكبر ، مما يفعل نسر اثناء تحليقهُ المُتكامل مهما يكن نوع التعبير عنه. وإرادته هذه نجدها في الكُتب المُقدسة وأمثال القديسين وبالأخص في آراء رسل الله حسب قول عزتهُ الإلهية : (من سمع منكم فقد سمع مِني) . لن الطاعة تكون لله وليست لهم.
عندما تتذوق نفس الطاعة جيداً تستلم للعمل الذي يأمرها به الله بمقدار مُتساوٍ من الفرح
والحرارة ومن الثبات والسرعة ، من دون ان تنظر لميولها الخاصة وراحتها الشخصية . مهما تكن قساوة مايمكن ان تتحمليه ياأبنتي ، لاتنسي شيئاً البته مما تعلمين أنه مُطابق لمشيئة الله الصالحة . إبدأي بالعمل بشجاعة وثقة فيه ، وسترين انه بواسطته يمكنك التغلب على جميع الصعوبات.
وإني اود ياابنتي ، أن تضطرمي أكثر فاكثر برغبة الأمتلاك الكامل للنِعمًة الإلهية . ليس باستطاعتك أبداً أن تعبّري ولا أن تتفهمي جمال نفس تنعّــمُ بهذهِ الموهبة ، إنه كبير بمقدار يفوق حتى كامل جمالات الخليقة المادية . ولهذا السبب يكون السيد مُمَجداً أكثر ، إاذ ماقدس نفساً ما ، من أن يخلق بكثير من الكمال كواكب السماء وغرائب الارض . ولكن من جهة اخرى كم تكون بشاعة النفس المُجردة من النِعمًة ! فالظلمات والنتانة وسوء الخلقة الأكثر شناعة ليست سوى صورة مُصغرة عنها . فكم يَلزمك إذا أن تتحملي ياأبنتي ، حتى تحافظي على سعادة النِعمَة ولاتشوهي أبداً جمالها ، ليس فقط بخطيئة طفيفة ولكن ايضاً بقلة كمال خفيفة.
وهكذا تقتدين بالأستعدادات التي حملتها لدى زيارتي لأليصابات . على مثالي ، لاتعاشري إلا الذين تستطيعين أن تتكلمي وإياهم عن العَلي أو تتعلمين منهم الطريق الحقيقي لمشيئتهُ الصالحة.
وعند أي تقدم تحرزينه ، أحسبي ذاتك دوماً بحيث يحسبك الناس الخليقة الأقل نفعاً بين البشر .
وإذا وُجِهّت إليك بعض الشتائم الشخصية ، فليكن عندك تجاهها تقدير كبير ولاتفتحي فمك حتى تدافعي عن نفسك او تتشكي.
ورغم ذلك وبّخي عن الخطايا التي تمسّ الخالق ولكن بدون أن تشركي مصالحك مع مصالح عزّته ودون أن تستسلمي للغضب . إبكي وصلـّي حتى تنالي إرتداد النفس الخاطئة وإن لم تنجحي بذلك يكون لك دوماً عند السيد الأستحقاق لأنك أعجبتهُ .
حتى تنعمي بهذه المواهب عليك أن تتجردي من جميع الميول الأرضية التي هي عاتق مُخيف.
لايعني ذلك أنه تكوني بغير شعور ، لأن هذا غير ممكن ، ولكن بالرغم من إحساسات الطبيعة التي لايمكن تجنّبها عليك أن تستسلمي بالكلية بين يدي الرب ، مع عدم مبالاة فرحة ومُقدسة.
ومن الواجب ايضاً أن بعيداً جداً وتهربي من تمليق الخلائق ، لأن سحرها يحوّل إتجاه النفس السريعة التصديق . وأخيراً إن السيد هو غيور جداً من النفوس التي يحبّها بحنان ويتركها عندما تجد هي مسرّتها في إطراءات الناس الخداعة . إنها لاتستطيع أن تتمتع في الوقت نفسه بتمليق العالم وملاطفات العَلي التي تسبب دوماً النقاوة والأتضاع والهدوء.
وإني أوصيك أخيراً ياابنتي أن تقتدي بالأحترام الذي كان عندي ، ليس فقط تجاه زكريا ولكن أيضاً تجاه باقي الكهنة ، لأن سمُوهم وشرفهم قد أصبحنا الآن أرفع بكثير إذ يمثلون اليوم الكلمة المُتجسد ، الكاهن الأعظم . تاملي اي مقدرة وأي سلطة تعطيها عزته بقوله:
(من سمع منكم فقد سمع مني ، ومن أحتقركم فقد أحتقرني) . أطلبي بركتهم قبلَ وفي نهاية كل حديث معهم وصلي بالأخص للعَلي حتى يباركك قبل أن تبدأي بأقل عمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لقد كُشـِفَ لماري داغريدا المُكَرمة أن هذه المدينة أندثرت ولكن بيت زكريا كان في نفس المكان حيث ترتفع الآن كنائس تـَخليداً للزيارة .