الصوم
لا يخفى على أحدٍ ما لفترة الصوم من أهمية في التاريخ الخلاصي، والكنيسة تولي أهمية كبيرة لهذه الفترة محملة أياها بمعانٍ عديدة لا يأتي ذكرها دفعة واحدة.
القديس باسيليوس الكبير يقول: "لقد بدأ الصوم في الفردوس عندما قال الرب لآدم: لا تأكل من شجرة الخير والشر، وقد طُرِد أبوانا من الفردوس بسبب عدم الصيام".
أكيد كلام مثل هذا اليوم ربما سيكون غير مقبولا عند البعض. إذ كل تعصب مثل هذا يؤدي بتغيير مفهوم الصوم الحقيقي. فما أهمية الصوم الذي شغل الكتاب المقدس ومسيرة الخلاص حتى يسوع يصوم. لماذا الصوم؟ ولماذا نصوم نحن اليوم؟
إذا سألنا أحد المؤمنين لماذا تصوم فجوابه حاضر أنه يكمل فريضة الكنيسة فرضت علينا، وكأني به يقول بأن الصوم هو سترة قديمة نلبسها طول الشتاء وفي الصيف ننزعها ونعرضها للشمس، مثلما عمل أجدادنا.
مفاهيم خاطئة بمعنى الصوم مثلاً: "حرمان" الإنسان يحرم نفسه من أمور رئيسية ولو بصورة نسبية وبدون معنى. حيث يعيش الصائم مرحلة حرجة يتذمر في ذاته، فيبدأ مثلاً صار المساء وانتهى الصوم لأننا صلينا صلاة المساء، أكلت ونسيت أنني صائم ... وأمور عديدة مثل هذه. "المظاهر" حيث يقوم الإنسان بإظهار قدرته على التحمل فيبدو له إنه قدير، فيجعل من ذاته المحور الأهم ويرى الآخرين بدرجة أقل فيصبح هذا الصوم مثل الافتخار لجلب أنظار الآخرين (كالمهرج أو البهلوان). "الشك" في عدة مواقف، هل يقبل الله مثل هذا الصوم أم لا؟ كنت قد نذرت أن أصوم كل يوم سبت للعذراء لكني أحد السبوت نسيت، كنت معزوم عند شخص... هنا أدعوكم إلى قراءة الإنجيل بخصوص الصوم.
الصوم هو ببساطة نقض للإنسان بأسلوب من الأساليب، هو كسر الروتين أيضاً، مثلما فعل يسوع: في عرس قانا الجليل حول يسوع ماء الجرار إلى خمر التي كانت مخصص للاغتسال. ربنا يسوع المسيح لا يريد أن يلتزم الناس بالشريعة وهم خالين من المحبة. نهاية الخمر في العرس يعني الحزن والإحراج، نهاية الفرح. هكذا في الصوم علينا ألا نلتزم بالشريعانية حيث نبذر أمولاً طائلة أكثر من عدم الصوم.
روح الشريعة هو الحب، فلنفرض الأصوام الصغيرة على أنفسنا في غرفتنا بيننا وبين ربنا. لأن حقيقة الصوم هي حقيقتنا الجوهرية وتحصيناتنا بالنسبة لجوهرنا. خلال حياتنا اليومية التي ربما هي غير مرتبة (تنظيم الوقت)، دائما نحن نتحجج بأن ليس لدينا المجال الكافي والظروف والصعوبات ... لهذا لا نستطيع عمل شيء؛ هذا كلام الكسلان. والمثل يقول: "رأس الكسلان دكان الشيطان". الصوم هو فرصة يعطيها الله لنا لكي نستطيع أن نحرر أنفسنا من القيود التي تمنعنا من الوصول إلى محور كياننا الحقيقي.
الصوم هو اهتداء إلى الطريق الروحي، يهيئنا لعيش سر آلام وموت وقيامة ربنا يسوع المسيح. وبالأخص سماع كلمة الله بانتباه أكثر مع المداومة على ممارسة الإماتات الجسدية ومن ثم الشعور بالآخر. كما أن الرب يسوع يعلمنا بأن الصوم هو توجّه الإنسان نحو إنسانيته، هذه هي أحدى خصائص الصوم المسيحي. مرتا مثلا كانت مشغولة بأمور عديدة، الحاجة هي السماع هذا ما اقتنته مريم ولن ينزع منها (راجع لوقا 10: 38-42).
الصوم هو الأمانة للعهد الذي قطعناه مع إلهنا. يسوع هو المثال الحي لفكرة الصوم: ففي المزمور الثاني الآية 7 يقول: "أنت أبني وأنا اليوم ولدتك" وفي هوشع: "من مصر دعوت أبني" (11: 1)؛ يسوع هو أبن الله وهو أيضاً يجسد شعب الله الذي سار في البرية أربعين سنة، ماراً بتجارب إسرائيل الأساسية خلال فترة صومه: انتصر على الشراهة (متى 4: 3) التي سقط فيها إسرائيل (تثنية الأشتراع 3: ؛ الكبرياء (متى 4: 6) المجد الذي عاشه إسرائيل الذي جربه إلهه أحياناً كثيرة (خروج 17: 2-7)؛ الطمع (متى 4: 10) الذي سقط إسرائيل فيه أحياناً كثيرة فأستبدل إلهه بمعبودات أخرى التي تنهي عنها الشريعة (خروج 20: 5). فترة الصوم هي تذكير لنا بهذه الأمور، بهذه الدعوة وبهذه المسيرة وبالأمانة المطلوبة منا.
يقول الأب فادي عبد النور: "الصوم في المفهوم المسيحي، لا يساعدنا على كبت أو اقتلاع أهواء ومتطلبات الجسد، معتبرين إياها غير طبيعية أو غير إنسانية، إنما يعننا على قبول ذواتنا، فتحمل مسؤولية خطايا الآخرين علة مثال الطاهر (يسوع) الذي قبل أن يكون خطيئة لأجلنا. إذن ليس الصوم صراعا ضد ذواتنا، إنما هو جهاد ضد كل ما يمنعنا من أن نكون ذواتنا، وضد كل شيء فينا موجّه ضد الآخرين.
الأب سامي عبد الأحد دنخا الريّس