المسيحي والسياسة
ماهي السياسية ومن هو السياسي المسيحي؟
مقالتي هذه تاتي تكميلا لمقالتين عن موضوع "الكنيسة والسياسية" نشرتها على صفحة "عنكاوا كوم" واريد من خلالها ان اثير بعض القضايا والمفاهيم الاساسية التي قد تساعد المسيحي (اكليروس وعلمانيين) بصورة عامة، والسياسي المسيحي بصورة خاصة، الى ترتيب قيمه واعطاء الاولوية للايمان في حياته قبل وفوق كل شيء أخر. ستلحق هذه المقالة مقالات اخرى عن نفس الموضوع. ابدأ بثلاثة تعريفات اساسية ومن ثم أقدم موضوعي الرئيسي.
السياسة
يشير مطلح "السياسية" بصورة عامة الى "فن سامي" وهو فن قيادة الدولة أو المدينة (πολις) والى طريقة تنفيذ هذه القيادة من قبل السلطات العامة من اجل الخير العام. لذا فالسياسة بمعناها العام تعني مجموع العوامل والظروف الاقتصادية والقانونية والاقتصادية والثقافية التي تسمح للمواطن، كفرد وكجماعات، الى تطور حياته بحرية والارتقاء والنمو بها نحو الخير والحق. لذا فالمفهوم الاول والاساسي للسياسة هو انها "خدمة" تُمارس من أجل تحقيق وترسيخ الخير العام. فهي ترتبط ارتباطا مباشر بمفهوم "السلطة"، ويتحدد دورها في استخدام السلطة لخدمة الناس والمجتمع. بحسب الفهوم الكتابي (الكتاب المقدس)، يجب على مثل هذه السلطة ان تُنجِد اولاً الضعفاء في المجتمع (الطفل، المرأة، الشيخ، المريض، المعوز، المحتاج، النبات والحيوان...). لذا يجب على السياسي ان يعي ذاته كانسان "مؤتمن" على المُلك العام وان يمارس سلطته بكل امانة واخلاص، لانه يعرف جيدا بان "السلطة تأتي من الله"!؟ فمن يصعد الى سدة الحكم، عليه ان يعرف بانه يؤدي خدمة من اجل انتصار الخير والحق. والكنيسة من جانبها تعتبر "السلطة السياسية" صورة وشكل من اشكال المحبة. فهي "دعوة للخدمة" بكل معنى الكلمة.
الشخص البشري
ليس الانسان مجرد "شخص في علاقة"، بل فرد مميز ومتفرد الصفات. عرّف ارسطو الانسان على انه "حيوان سياسي"، اي الانسان الذي لا يمكن ان يعيش الا في "المجتمع"، وهو بهذا يختلف عن بقية الحيوانات، التي وان كان بعضها يعيش في جماعات او تجمعات، الا انها لا تكون مجتمعات. كلمة "مجتمع"، بالنسبة الى ارسطو، اوسع بكثير من مجرد "تجمع"، فهي تعني ثقافة، علم، عمل… الخ. هذا التعريف، اخذه القديس توما الاكويني وطوّره ليصبح: "كائن سياسي واجتماعي". فالانسان كائن اجتماعي طبعا ووجودا. ومن خلال العلاقة بالآخر، يتجاوز الانسان "عدم كفايته" ليكتمل في الآخر.
هذا التعريف يبرز ثلاثة ابعاد (اوجه، اركان، اسس) رئيسية في وجود الانسان:
1. بعد "التسامي": يشير الى انفتاح الانسان على "المطلق"، وهذا ما يميزه عن بقية المخلوقات الاخرى.
2. بعد "الذاتية": يشير الى ان الانسان يتأسس على "الوجود" وليس على "التملك".
3. بعد "الغيريّة": يشير الى ان الوجود البشري يأنسن ذاته من خلال علاقته بالاخرين، من خلال عطائه ودعوته للآخر.
الجماعة
الجماعة هي مجموعة الاشخاص الذين يرتبطون بفعل اصولهم وغاياتهم المشتركة بعضهم ببعض ويمارسون نشاطا جماعيا. لذا فان مصدر ومعنى الجماعة ينبع من "الفعل". "فالفعل" هو الذي يوحّد ويؤسس الجماعة. يرتبط كل فرد بالجماعة علاقة متبادلة: مع ان دور الافراد في اية جماعة هو دور رئيسي، فمنه تنطلق كل مبادرة وفيه تجد كل مباردة غايتها الاخيرة. فالجماعة هي منظومة اجتماعية. ومن الجماعات الصغيرة، تصدر الجماعة السياسية التي تمتلك صفة قانونية اعلى من سلطة الافراد والجماعة الصغيرة الاخرى. فالجماعة السياسية هي الجماعة الشاملة لكل الناس. القديس توما، يتفق مع ارسطو على القول بان "الجماعة السياسية" هي "الجماعة الاسمى" من باقي المؤسسات المخلوقة من الانسان. "الدولة" هي "الجماعة السياسية".
المسيحي والسياسية
فبحسب المفهوم المسيحي اذن: "السياسة" هي "خدمة"، خدمة محبة وتضامن من أجل الآخرين. ولهذا يجب على السياسة ان تتحرر من اية "ايديولوجية" أو "انظمة خاصة" او "انتماء لجماعة" لكي ما تحافظ على معناها الاصيل كفعل انساني وتأنسن الانسان بكل خدمة وتساعده على النمو والتطور، كفرد وكشعب وكشعوب.
يجب على المسيحي ان يضيف على السياسة اصالة فعل الايمان الذي لا يفصله عنها، بل يدفعه للمساهمة في بناء المجتمع وكمال البنى والمؤسسات المجتمعية. فالسياسة هي "المكان" حيث تتخذ القرارات الكبيرة المتعلقة بشكل الحياة العامة في المجتمع والتي تؤثر على شكل الحياة الخاصة للفرد.
يجب على السياسة كسلطة منظمة ومنفذة ان تهتم بكل انسان، فردا وجماعة، جماعات ومنظمات. يجب ان لا ينسى السياسي بان الشخص البشري هو "مبدأ"، "مركز" وغاية النظام السياسي، الاقتصادي والاجتماعي. فالشخص البشري، بمفهومه المتكامل كحقوق وواجبات، هو نقطة الانطلاق ونقطة اللقاء والمقياس الاخلاقي للفعل السياسي ومن اجل الفعل السياسي.
فاولوية الشخص البشري ومركزيته يجعل النظام السياسي والسياسة حقائق نسبية، ويريد ان يؤكد على طابعهما الوظيفي والخدمي. مثال الخدمة هو المسيح، الذي أخذ صورة الـ "عبد" "عبد لله" واطاع حتى موت الصليب (فيلبي 27/ 7-8). فالايمان بالمسيحي يدعو ويحث المسيحي باستمرار الى اكساب التزامه السياسي طابع السخاء والتكريس، طابع المحبة وانكار الذات.
فالسياسية التي تقلص مجال حرية الافراد وتضيّق دائرة حقوقهم وتستبدل نفسها باختيارات المواطنين وتفرض عليهم ارادتها بتسلط، لا يمكن ان تكون سياسة مفيدة ونافعة للخير العام ولخير الناس.
العلماني المؤمن مدعو اذن للمشاركة في حياة البلد السياسية والالتزام سياسيا يقوده لتحقيق هذا ايمانه وضميره المسيحي المستقيم. ويجب على الاكليروس ان ينتبهوا لئلا يسلبوا العلمانيين دورهم في النظام الزمني، وعلى العلمانيين ان يتجنبوا نوعا من "الدينية أو الاكليروسية" التي يمكن ان تُظلم علمانية الدولة السياسية.
اختم هذه المقالة بكلمات البابا يوحنا بولس الثاني الذي كان يقول: "العمانيون مدعون الى الالتزام بالحياة السياسية، بحسب قابلياتهم وظروفهم الزمانية والمكانية، والعمل لصالح الخير العام بكل متطلباته، وخصوصا ما يتعلق منه بتحقيق العدالة لخدمة المواطنين، كاشخاص (…) فالعلمانيون المسيحيون مدعون الى اعطاء المثل الصالح والامين في الحياة السياسية، وان لا يبحثوا عن مصالحهم الشخصية، او يستخدموا طرقا غير شرعية لخدمة قضاياهم الجماعية والحزبية، او يتبونا طرقاً يمكن ان تقود الى أضعاف المثل والقيم النبيلة، الانسانية والدينية" (يوحنا بولس الثاني، الاوسرفاتوري رومانو، 14 أبريل 1994).
ابونا
سعد سيروب
fr.saadsirop@gmail.com Quelle: ankawa.com