فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ.
يبدأ يوحنا إنجيله بالحديث عن الكلمة؛. فالكلمة، كفي مفهومنا، هي وحدة لفظية بها نعبّر للآخرين عن أنفسنا. ولكن يوحنا لا يكتب عن ”ألفاظ“، بل بالحري عن ”شخص“. وهذا الشخص هو الرب يسوع المسيح، ابن الله. فالله قد عبّر عن ذاته للبشرية، تعبيرًا كاملاً، في شخص الرب يسوع المسيح. وهكذا فإن المسيح بمجيئه إلى العالم، أعلن لنا من هو الله بالتمام. كما أنه بموته لأجلنا على الصليب، نقل إلينا مقدار محبة الله لنا. إذًا، فالمسيح هو كلمة الله الحي للإنسان، والتعبير عن أفكار الله. في البدء كان الكلمة.
* لم يكن له هو نفسه أية بداية، بل هو موجود منذ الأزل. فالرب يسوع كان هناك، مهما بدت سحيقة جدًا الحقبة الزمنية التي باستطاعة الذهن البشري الرجوع إليها. فهو لم يُخلَق قَطّ، كما أن لا بداءة له والكلمة كان عند الله. كانت له شخصيَّة، أو أُقنوميَّة خاصَّة ومُميَّزة. فلم يكن مُجرَّد فكرةٍ أو خاطرة، ولا مِثالاً غامضًا من نوع ما، بل كان شخصًا حقيقيًّا. كان عند الله. وكان الكلمة الله. فهو لم يسكن عند الله وحسب، بل كان هو نفسه الله. يعلِّم الكتاب المقدس بوجود إله واحد وثلاثة أقانيم في اللاهوت: الآب والابن والروح القدس. فكُلّ من هذه الأقانيم الثلاثة هو الله؛ والله هو كُلُّها. وفي هذه الآية إشارة إلى أقنومين من جملة أقانيم اللاهوت الثلاثة: الله الآب، والله الابن. وهنا إعلان واضح أنا المسيح هو الله نفسه، فالكتاب المقدس يعلِّم عنه صراحة بأنه الله.
هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ.
أنّ شخصية المسيح وألوهيته كانتا من دون بداية أو بدء. فهو لم يصبح شخصًا أوّل مرّة بولادته طفلاً في بيت لحم، ولا هو أمسى إلهًا على أثر قيامته، كما يزعم اليوم بعض المعلمين؛ إنما هو الله منذ الأزل.
كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.
كل شيء به كان. فهو نفسه لم يكن كائنًا مخلوقًا بل كان خالق كل شيء، بما في ذلك الجنس البشري، والحيوانات، وكواكب السماء، والملائكة، كل شيء، ما يُرى وما لا يُرى. وبغيره لم يكن شيء ممّا كان. ولا مجال هنا البتة لأية استثناءات محتملة. فكل شيء مخلوق، قام الرب بخلقه. وبصفته الخالق، فهو، بلا شك، أسمى مقامًا من أي شيء صنعه. كما أن الأقانيم الثلاثة في اللاهوت، شاركت جميعها في عملية الخلق هذه: «الله خلق السماوات والأرض» (تك1: 1). وكان «روح الله يرفّ على وجه المياه» (تك1: 2) «الكل به (بالمسيح) وله قد خُلق» (كو1: 16).
فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ،
فيه كانت الحياة. وهذا لا يعني أنه كان مجرد كائن حي، بل إنما التركيز هو على أنه كان، وما زال، مصدر الحياة. والإشارة هنا هي إلى الحياة على كل من الصعيدين المادي والروحي. فنحن، لدى ولادتنا، حصلنا على الحياة المادية، لكننا نحصل على الحياة الروحية، عندما نولد ثانية؛ والمسيح هو مصدر هاتين الحياتين كلتيهما. والحياة كانت نور الناس. فالرب الذي وهبنا بالحياة، هو نفسه أيضًا نور الناس، إنه يضمن للإنسان ما يحتاج إليه من قيادة وإرشاد. فشتّان بين مجرّد الوجود على قيد الحياة والتعرّف بسبل الحياة، وبالهدف الحقيقي للحياة، وبالطريق إلى السماء. لذا نجد أن الرب الذي منحنا الحياة، هو نفسه الذي يُنير خطواتنا في سيرنا. يذكر هذا الأصحاح التمهيدي من إنجيل يوحنا سبعة ألقاب رائعة لربنا يسوع المسح. فهو يُدعى: 1 - الكلمة (ع1، 14)؛ 2 - النور (ع5، 7)؛ 3 - حمل الله (ع29، 36)؛ 4 - ابن الله (ع34، 39)؛ 5 - المسيح (مسيّا) (ع41)؛ 6 - ملك إسرائيل (ع49)؛ 7 - ابن الإنسان (ع51). والجدير بالذكر أن الألقاب الأربعة الأُولى، والتي أُورد الرسول كلاً منها مرتين على الأقل، كان لها، على ما يبدو، طابع عام وشامل. أمّا الألقاب الثلاثة الأخيرة، والمذكورة مرة واحدة فقط، فإنها تنطبق أولاً على إسرائيل، أو شعب الله في القديم.
وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ.
*والنور يضئ في الظلمة. إنّ أذهان الناس قد أظلمت بسبب دخول الخطية. وهكذا بات العالم يتخبّط في ظلمة، بمعنى أن الناس لم يعودوا، بشكل عام، يعرفون الله، ولا يرغبون في التعرف به. وإلى هذه الظلمة جاء الرب يسوع، فبات النور المضيء في موضع مظلم. والظلمة لم تدركه. وقد يعني هذا أن الظلمة لم تفهم الرب يسوع عندما جاء عالمنا. فالناس لم يدركوا هويته على حقيقتها، ولا السبب وراء مجيئه. والفكرة، في هذه الحال، هي أن رفض الإنسان وعداءه، لم ينجحا في منع النور الحقيقي من الإضاءة.
كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا
ويوحنا المعمدان هذا هو مُرسل من الله لإعداد طريق الرب يسوع. فمهمته كانت إعلان مجيء المسيح، وتنبيه الناس إلى ضرورة الاستعداد لقبوله. هذا جاء ليشهد لحقيقة أن يسوع كان حقًا نور العالم، حتى يتمكّن كل الناس من الإيمان به. كان يوحنا سيُظهر عدم أمانة للمهمة المعهودة إليه لو حاول جذب الانتباه إلى نفسه. لكنه وجّه أنظار الناس إلى يسوع، لا إليه هو شخصيًا.
كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ.
أن النور يضيء على الناس أجمعين، وذلك بصرف النظر عن جنسياتهم، أو أعراقهم، أو ألوان بشرتهم. كما أن الرب يسوع بإشراقه على كل الناس يكشف حقيقتهم. فبمجيء الرب إلى العالم، بصفته الإنسان الكامل، أظهر مدى قصور الناس عن بلوغ مستوى الكمال الرفيع هذا. فعندما يخيّم الظلام الدامس على إحدى الغرف، لا تستطيع رؤية الغبار على الأثاث فيها، لكنك سترى حقيقة الغرفة حينما يشعّ النور فيها. وبطريقة مماثلة، فإن إشراق النور الحقيقي، يعمل على إعلان حقيقة أمر كل إنسان.
كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ.
كان الرب يسوع، منذ ولادته في بيت لحم إلى يوم رجوعه إلى السماء، في العالم نفسه الذي نعيش نحن فيه الآن. فهو المسؤول عن خلق هذا العالم بأسره، كما أنه هو المالك الشرعيّ له. لكن الناس حسبوه مجرّد إنسان نظيرهم، عوضًا عن الاعتراف به بوصفه الخالق العظيم. وهكذا عاملوه كغريب منبوذ.
إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.
إلى خاصته (إلى الأشياء التي تخصه أو إلى موضع نفوذه وسلطانه،جاء. لم يتعدَّ أملاك شخص آخر، بل عاش على كوكب من صُنعه هو. وخاصته (أي شعبه) لم تقبله. الإشارة هنا، بشكل عام، قد تكون إلى البشرية جمعاء، وهذا صحيح، بما أن الناس في غالبيتهم قد رفضوا الرب؛ لكن الأمّة اليهودية كانت، على وجه التحديد، هي الشعب الخاصّ الذي اختاره الله قديمًا شعبًا أرضيًّا له. فالرب، في مجيئه إلى العالم، قدَّم نفسه إلى اليهود بصفته المسيّا المنتظر، غير أنهم لم يقبلوه.
وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.
لذا فإنه الآن يقدِّم نفسه مجدَّدًا للبشرية جمعاء، مانحًا كل الذين قبلوه، سلطانًا أو حقًا أن يصيروا أولاد الله. يبين لنا بكل وضوح، السبيل لصيرورتنا أولاد الله. فهذا لا يتم من طريق الأعمال الصالحة، ولا الانتماء إلى كنيسةٍ ما، ولا ببذلنا قصارى جهدنا. إنما يحصل بقبولنا الرب والإيمان باسمه.